طارق البشري.. معضلة الاستقلال والديمقراطية

إبراهيم الهضيبي

السبت 29 مايو 2021

* الكاتب: إبراهيم الهضيبي، باحث دكتوراه بقسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأفريقيا بجامعة كولومبيا

 

رحل عنا في فبراير الماضي المستشار طارق البشري، النائب الأول لرئيس مجلس الدولة سابقا، وأحد أبرز المؤرخين المصريين، والقانوني الأهم في نصف القرن الأخير، متأثرا بإصابته بفيروس كورونا. رحل وثمة كتابات له لم تنشر، وأفكار له لم تكتب، وحوارات معه لم تتم...ومشروع تأريخي وفكري، تأسس على مدار عقود، ثم اصطدم بمتغيرات ضخمة في ثورة يناير وما تبعها، فأثر فيها وأثرت فيه، واشتبكا واختلفا واتفقا. ثم انتهى الأمر بهزيمة ثورة يناير، ووفاة المستشار البشري، من غير أن ينتصف أحدهما من الآخر، بل ومن غير تقييم لعلاقتهما يتجاوز الانفعال اللحظي.

 

وعقب وفاة البشري، ظهرت مقالات تحتفي به وبتاريخه الفكري والقانوني، وكتابات أخرى تختصر هذا التاريخ في رئاسة لجنة التعديلات الدستورية التي أعقبت ثورة يناير، والتي تعرض بسببها لانتقادات حادة. ومفكر ومؤرخ بحجم البشري يستحق – في تقديري – اشتباكا أكثر جدية مع أفكاره، يعرضها ويضعها في إطارها التاريخي ويمحصها وينتقدها، وهو عمل لا يتسع له هذا المقال، الذي يبحث في قضية واحدة عند البشري، وهي تداخل السعي لضمان استقلال وتماسك الجماعة الوطنية، بالسعي لإدارة العيش المشترك بين أطرافها المختلفة ديمقراطيا. يبحث المقال عن أصول هذه المسألة في مشروع البشري التأريخي والفكري، وفي عمله القضائي، ثم ينظر منه إلى مواقف البشري في ثورة يناير، وتأثره بها، ويذهب إلى أن الحرص على النزوع الديمقراطي – لا الميل الإسلامي – كان أهم ما يميز مشروع البشري التأريخي والفكري، وأن تعريفه للديمقراطية وحدودها مع ذلك تغير كثيرا بفعل ثورة يناير وما تلاها.

 

  • البشري قبل ٢٠١١:

 

القاضي: عدالة يومية تمنع التعسف

عندما انتهت الولاية القضائية للمستشار طارق البشري سنة ١٩٩٨، عُقدت "ندوة أهلية" للاحتفاء بـه، تحدث البشري في نهايتها، فحكى أنه في شبابه لم يكن يعرف إن كان يصلح في مهنة القانون، وأنه ذهب ذات يوم لزيارة جده الشيخ سليم البشري المدفون عند مسجد السادة المالكية، فصلى ركعتين وجلس، وعاهد الله كما عاهده سيدنا موسى فقال "رب بما أنعمت عليَّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين." ثم أضاف "وبقيت فيما أتصور على هذا الوعد، أحاول جاهدا أن أوفيه، وقلقي كله هو ألا أكون قد وفَّيته، حتى جاءت ساعة الخروج من العمل القضائي، وذهبت أنا وزوجتي نؤدي العمرة، لم أفعل شيئا هناك بعد أداء العمرة سوى أن أشكر الله سبحانه وتعالى على أنه لم يمتحني امتحانا صعبا أخرج فيه من عهدي."[1]

 

ليس الملفت وفاء البشري بعهده، وإنما اعتقاده أنه لم يتعرض لامتحان صعب، ذلك على الرغم مما مر به في مسيرته الوظيفية من قضايا عرَّضه الحكم فيها بما رآه عدلا لهجوم من اتجاهات مختلفة، وأدخله في خصومة مع أطراف أهمها رئيس الجمهورية، الذي حرص – بسبب ذلك – على عدم تولي البشري رئاسة مجلس الدولة. لم ير البشري أنه تعرض لامتحان صعب – فيما يبدو - لسببين متداخلين.

 

أولهما أنه لم ينشغل بالمواقع الاجتماعية والسياسية لأطراف القضايا التي نظرها، فاستوت عنده القضايا التي طرفها رأس السلطة السياسية بالتي يختصم فيها المدعي موظفا عاما محدود النفوذ: استوت عنده قضية حكم فيها ببطلان قرار رئيس الجمهورية بإحالة مدنيين لمحاكمة عسكرية[2]  (وهي قضية شغلت الرأي العام في حينها، وتعرض البشري بسببها لهجوم غير معتاد على القضاء من تحت قبة البرلمان)، بالقضية التي نظرها في الأسبوع التالي لطالب جامعي يطالب بإعادة حساب درجاته،[3] لأنه لم ينظر لسلطان المتخاصمين.

 

لم يطلب ذهب المعز ولم يخش سيفه، ولم ير في ذلك امتحانا صعبا، لأنه لم ير المعز ولا سيفه ولا ذهبه، وإنما رأى موضوع القضية فبحث عن العدل فيها بقطع النظر عن مواقع أطرافها. فكيف يرى أنه تعرض للامتحان؟ كيف يرى أنه زهد في ذهب لم يلحظه؟ أم كيف يرى نفسه شجاعا في مواجهة سيف لم يره؟

 

أما السبب الثاني فهو أن البشري في بحثه عن العدل في القضايا المعروضة عليه لم ينشغل باله بسؤال "المصلحة العامة" التي تبرر بها السلطة التنفيذية أحيانا إجراءاتها التعسفية، فتختلط بها حسابات القاضي بين الحقوق المتنازع عليها والمصلحة العامة. لم ينشغل البشري بحسابات المصلحة لأنه يرى القاضي رجل قانون لا رجل دولة، والفرق بينهما أن رجل الدولة "سياسي يرتبط وجوده ومستقبله واستقرار حكمه بأن ينجح في انجاز ما وعد به، ومعياره في ذلك هو النجاح أو الفشل في تحقيق أي من هذه المهام المسندة إليه،" أما القاضي، رجل القانون، فليس كذلك، بل شاغله الأول "أن تصدر التصرفات ممن يملك شرعا إصدارها...و إلا تهدر هذه التصرفات حقوقا للناس أو للأفراد والجماعات...ولذلك فمعياره الصواب والخطأ."[4] فالبشري القاضي يبحث عن الحقوق في الحالة المتعينة، وفق القانون وقواعد العدالة، ولا يلتفت لمصلحة قد تدعيها السلطة لتفويت تلك الحقوق.

 

كلا المعيارين، أي التركيز على سؤال الحقوق لا سؤال المصلحة، والانشغال بتحقيق العدل بقطع النظر عن قوة الأطراف المتنازعة، جعل جوهر العدل عند البشري (القاضي بمجلس الدولة الذي يختصم الأفراد الموظفين العموميين عنده متهمين إياهم بإساءة استعمال السلطة، والذي اختبر بنفسه تعسف السلطة بدعوى المصلحة العامة حين صادرت بعض كتبه[5]) مقابلا للتعسف، مرتبطا بإلزام السلطة بالقانون، ومنعها عن مجاوزته، وبرعاية الحقوق الفردية والجماعية للناس. ومن هذا المنظور للعدل، تستوي القضايا في أهميتها، فلا فرق بين قضايا الرأي العام، كبطلان الإحالة للمحاكم العسكرية، والتي ثار الجدل حولها بسبب أثرها على معركة الدولة مع جماعات العنف في التسعينات، والقضايا التي لا تهم سوى أطرافها، كالكشك الذي يشكو صاحبه السلطة التنفيذية التي تعسفت فأزالته.

 

هذا الموقع للبشري، كقاض في مجلس الدولة، يعمل على تقويم أدائها، وإلزامها الوفاء بواجباتها، كان له أثر كبير لا على تصور البشري عن ماهية العدل في التنظيم السياسي فقط، وإنما على تصوره لأهمية الدولة، ولدورها في تنظيم الحياة الجمعية، ولطبيعة علاقة أجهزتها بعضها ببعض، ولطبيعة علاقتها بالمواطنين. كان البشري القاضي – بعبارة أخرى – الأساس الذي تفرعت عنه تصورات البشري المؤرخ، والمفكر.

 

المؤرخ: الجماعة الوطنية وإدارة الحياة الجمعية ديمقراطيا

المستشار طارق البشري هو أحد أهم مؤرخي الوطنية المصرية، وهو كذلك أحد أهم رموز مدرسة وجيل "مقاومة الاستعمار" في التأريخ. والذي يمتاز به إسهام البشري عن التيار الرئيسي لهاتين المدرستين لا أنه كان "إسلاميا" (وهو لا شك كذلك)، ولكن تعامله مع الوطنية المصرية كنتاج تاريخي متغير لا كانتماء جوهراني سرمدي، ودفاعه الدائم – مع أهمية قضية "الاستقلال الوطني" عنده – عن الديمقراطية.

 

يبدأ مشروع البشري التأريخي بالبحث في أصول الجماعة الوطنية المصرية، التي تشكلت في بدايات القرن التاسع عشر. "في البدء كانت الدولة:"[6] فالمصرية كانتماء سياسي لم تكن خاملة ثم أعيدت للحياة (كما يفترض جل مؤرخي الوطنية المصرية، الذي يرون المصرية امتدادا للفرعونية، كما يظهر في جداريات وكلام العكسريين مثلا)، بل ولدت في دولة محمد علي، لأسباب تاريخية يتتبعها البشري في دراسات متفرقة،[7] وكانت هذه الدولة هي "المؤسسة التي قامت على أكتافها الجماعة السياسية المصرية."[8] بل بقيت المصرية مقتصرة على هذه الدولة ولم تكن انتماء سياسيا عاما لعقود، فكان التنظيم المصري "سابقا على الوعي بالمصرية،"[9] وهو وعي لم يكتمل تشكله إلا بمواجهة الاستعمار في نهايات القرن التاسع عشر.

 

يرتكز تأريخ البشري للوطنية المصرية على ركيزتين، أولاهما مركزية قضية الاستقلال عن المستعمر، وهذه يشترك فيها مع جل مؤرخي مقاومة الاستعمار . فالوعي بالذات الجماعية عنده يبدأ بشعار "مصر للمصريين" المرتبط بالثورة العرابية، والأهمية التاريخية للوطنية تكمن في كونها إطارا يمكن من خلاله إزاحة الاستعمار، لذلك، وعلى الرغم من "كثرة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية" التي واجهها المجتمع المصري في لحظة تحول الوطنية لإطار جامع لفئاته المختلفة في الفترة السابقة للحرب العالمية الأولى، يؤكد البشري أن "مطلب جلاء المستعمر (مثل) أولوية ملحة" التفت حوله القوى السياسية والاجتماعية.[10]

 

أما القضية الأخرى فهي التنظيم الديمقراطي للحياة الجمعية، وهي قضية يبحث البشري سبلها في تأريخه، ويصر عليها إصراره على الاستقلال، فهو يرفض "الثنائية الشهيرة: الوطنية من جانب والديمقراطية من جانب آخر، أو الاستعمار من جانب والاستبداد من جانب آخر،"[11] لأنه يرى أن أحد طرفي هذه المعادلة لا يستغني عن الآخر. يرفض الاختيار بين الاستقلال والديمقراطية، كما سيرفض لاحقا الاختيار بين المدنية والإسلامية، لأن من يهدر أحدهما هو كالتلميذ الأحول الذي حكى عنه الرومي، طلب منه استاذه أن يأتي بإبريق الماء الخاص به، فصوره له الحول أنه إبريقان، واحتار أيهما يحمل، فهداه فكره أن يكسر أحدهما ويأخذ الآخر، فلما كسر أحد الإبريقين لم يجد الآخر.[12]

 

هذا التضافر بين الديمقراطية والاستقلال هو قلب مشروع البشري التأريخي، ففي تأريخه لثورة ١٩١٩، التي يعتبر نفسه من أبنائها، يقول إنها كشفت "أن المشروع الوطني الذي تجتمع عليه الأمة هو كلا المطلبين معا، فلا يقوم أحدهما بغير الآخر، ولا يقوم أحدهما قبل الآخر، وأنهما لا بد أن يترابطا في عملية سياسية تاريخية واحدة،"[13] وسبب انتكاس ثورة يوليو – التي يرى البشري أنها حفظت لمصر استقلالا لم تعرفه طوال القرن العشرين – هو "فقدانها العنصر الديمقراطي في بناء مؤسسات الدولة والمجتمع"[14] كما كان غياب الاستقلال سببا في تآكل الممارسة الديمقراطية في العقد السابق عليها. يظهر التداخل بين القضيتين عند البشري كذلك في كتابه "مشكلتان وقراءة فيهما"[15] الذي صدر في أعقاب حرب الخليج، والذي يناقش فيها قضية التنظيم السياسي الداخلي وفقره الديمقراطي، مع قضية الغزو الأجنبي.

 

يقود هذا الترابط بين الاستقلال والديمقراطية البحث التاريخي للبشري، فيبحث في تاريخ الجماعة الوطنية عن محاولات الاستقلال وتجارب العيش المشترك الديمقراطي. يقوم الاستقلال عنده على إمكانية التماسك بين التيارات المختلفة للوطنية المصرية: القومي والليبرالي/الديمقراطي والإسلامي واليساري/الاجتماعي، فيركز بحثه التاريخي على البحث في سبل إدارة العيش المشترك بين هذه التيارات ديمقراطيا، بل ويسعى لإيجاد مساحات تمكنها من التعاون في القضايا المشتركة، والتي أهمها عنده التخلص من النفوذ الأجنبي. لا يكتفي بالتأكيد النظري على أن هذه التيارات ليست متناقضة، بل يستخدم البحث التاريخي لكي "يثبت واقعيا وتاريخيا أن التيارات الأربعة...ليست غير متناقضة فقط، ولكنها ينبغي أن تكون متساندة ومتآزرة يغذي بعضها بعضا، وأن هذا التساند تحقق فعلا بشكل أو بآخر في سياق التاريخ المصري،"[16] في اللحظات التي تهددت فيه الجماعة الوطنية بفعل النفوذ الأجنبي.

 

وعدم التنافي بين هذه التيارات لا يعني عدم التدافع والصراع بينها، وإنما يعني إمكان إدارة الحياة الجمعية ديمقراطيا. فالقاسم المشترك من هذه التيارات يفتح آفاق التحاور والتنافس، من دون أن يكون لطرف على الآخر كلمة نهائية، بل يأخذ هذا الحوار صورا مختلفة، بينها الانتخابات، التي "تصير نتائجها المستخلصة بغض النظر عن الأرقام والنسب، مرآة تعكس ما قد تتفتق عنه تفاعلات الحركة السياسية والاجتماعية والثقافة في المجتمع بتياراتها المختلفة،"[17] وتكون قابلة للتغير مرات أخرى في انتخابات تالية. واستمرار إدارة هذه الحياة الجمعية بشكل ديمقراطي، مع الحفاظ على التماسك اللازم للاستقلال، ليست في نظر البشري مسألة سهلة، فهي تحتاج لبحث دائم عن القواسم المشتركة، مع الصراع والتدافع، وذلك بالتحديد كان مشروعه البحث عن تلك القواسم كل يوم، لبناء تيار رئيسي، يحفظ الديمقراطية والاستقلال جميعا، رأى البشري المهمة صعبة، ولكن "نحن نصنع في كل يوم ما نرجو الله سبحانه أن يجعل فيه الخير للأيام التالية، وإذا لم تكن لدينا القدرة على أن نلائم بين اتجاهاتنا وتياراتنا، وننسق بين مفردات مطالبنا وأن ننظر نظرة تكامل وشمول لأوضاع الجماعة في عمومها، فلن نكون ممن يعملون لدنياهم كأنهم يعيشون أبدا."[18] فإذا كان المبتغي للجماعة الوطنية أن تعيش – كما يريدها - متجاوزة كل أفرادها، فسبيل الذي السعي للعيش أبدا هو البحث في إمكانيات العيش الديمقراطي المشترك والبناء عليها، بدل محاولة الإقصاء، أو الاستبداد بالإدارة، أو التدمير.  

 

تضافر الحرص على الديمقراطية والاستقلال يفسر كذلك أهمية "المرجعية الإسلامية" في تأريخ البشري القانوني. أما ارتباط تلك المرجعية بالديمقراطية فلأنها تمثل مرجعية للقطاع الأوسع من المصريين، وكان مما كشفت عنه ثورة يناير عنده "الترابط بين التشكل الديمقراطي والتشكل الثقافي الإسلامي"[19] على نحو يجعل استبعاد ذلك المكون الثقافي عملا استبداديا. ثم إن إدارة شؤون الدولة بعيدا مرجعية المجتمع ينزع عنها (أي الدولة) الشرعية، إذ "لا بد من صيغة ثقافية عامة تجمع هؤلاء الناس الحكام مع هؤلاء الناس المحكومين، وإلا كان فعل الدولة عدوانا محضا."[20] فالوظيفة الأولى للمرجعية الإسلامية هي إضفاء مشروعية ديمقراطية على عمل الدولة وقراراتها التي بها تنظم حياة الأفراد.

 

أما وظيفتها الثانية فتتعلق بالصراع مع المستعمر من أجل الاستقلال، إذ لسنا عند البشري "طرف الصراع فقط، إنما نحن موضوع الصراع أيضا،"[21] أي أن الصراع يدور لا حول مقدرات الجماعة البشرية فحسب، بل طُلبة الاستعمار "هي نحن البشر وما نملك. وأي حركة للمقاومة لدينا ليس من شأنها أن توجد وتنمو، إلا أن تستند إلى تميز وثيق لنا في الهوية والانتماء، أي أن ندرك ذاتنا الجماعية في تميزها واستقلالها،"[22] وهو ما لا يكون بغير البناء على الموروث الثقافي، وفي القلب منه الشريعة.

 

من هذا المنطلق انتقد البشري محاولة السنهوري لتمصير القانون، فرأى في تسوية السنهوري بين الفقه الإسلامي والقانون الفرنسي وتخيره بينهما استقلالا مختلا، يجمع بين الاستقلال المحمود عن الغير، والاستقلال المذموم عن "الذات التاريخية التي تشكل واحدا من المكونات الحالة في النفس الجماعية المعاصرة."[23] فأهمية الشريعة للذات الجماعية عند البشري تكمن في كونها الموروث، الذي به تواجه الوافد المستعمر.

 

وكغيره من مؤرخي الوطنية المعادية للاستعمار، تحتل ثنائية "الموروث والوافد" هذه مركزا مهما في تفكير البشري، فأزمة هوية الجماعة الوطنية عنده تتمثل في انتقالنا من "أرض الموروث" التي كنا نتخير منها من الوافد ما يناسبنا، إلى الوقوف على أرض خليط بين الموروث والوافد، بل وصل الأمر للوقوف على أرض الوافد، والسؤال عما يصلح للاستدعاء من التراث كما كان الآباء يتساءلون عما يأخذون من الوافد.[24] هكذا عند البشري: الموروث والوافد متمايزان، الموروث أصيل والوافد طارئ، والمواجهة بينهما هي أهم ما يواجه "العالم العربي الإسلامي." والمقبول نقله عن الغرب هو "الصنائع" والعلوم دون الأفكار والأخلاق، والفصل بين الصنائع/التكنولوجيا/العالم المادي والأفكار/الأخلاق/العالم الروحي تبدو بالتالي ممكنة. وليست هذه الثنائيات غريبة على مؤرخي ومنظري دولة التحرر الوطني، لا سيما في مرحلتي التأسيس والمناورة.[25] والبشري، في إطار هذه الثنائية، لا يخضع القوى المحسوبة على الموروث للنقد والتمحيص التاريخي، فيقبل – في إطار المعركة على الهوية التي هي عنده شطر معركة الاستقلال – دعاوى هذه القوى، ومن هنا يفهم تعاطفه مع الإسلاميين في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه الحركة السياسية في مصر، فالتيار الإسلامي عنده "كان هو الأًصل، ثم بدأ التضييق يأخذ عليه السبل وانطمر سنوات قليلة ليعود من جديد. وهو لم يكن بعيدا عن السياسة،"[26] فـ"الإسلامية" في الحركة الإسلامية عند البشري لم تخضع للتمحيص التاريخي، وقبل دعواها بأن سبب ظهورها سقوط الخلافة العثمانية،[27] لأنه نظر لهذه الحركة في إطار معركة الموروث والوافد، وكانت عنده الموروث.

 

يطرح البشري سؤال الموروث والوافد، ويطمح في إجابة مبدئية من قارئه ينحاز بها للموروث قبل أن يناقش مشكلاته، وهو ليس غافلا عنها. فالبشري يدرك أن الفقه الإسلامي في صورته القائمة قاصر عن الوفاء بالإدارة الديمقراطية للحياة الجمعية، وبتنظيم العيش المشترك. كان هذا القصور، الناتج عن "جمود الوضع التشريعي الآخذ عن الشريعة الإسلامية"، أحد أسباب اضطراب البناء التشريعي في القرن التاسع عشر.[28] والبشري يدرك – فيما يتعلق بأوضاع غير المسلمين في البلاد ذات الأغلبية المسلمة على سبيل المثال – أن الجهود الفقهية والفكرية المبذولة على مدار العقود السابقة "قد لا تكون بلغت تمام المراد" رغم الخطوات الواسعة والجهد النبيل والنتائج الهامة،[29] ومثل هذا يقال في القضايا الأخرى ذات الصلة. ومع إدراكه لتلك المشكلات، يلتزم البشري منهجه في علاجها، فهو يؤمن بأن الحلول تتولد بالممارسة الديمقراطية الفعلية التي تعالج بالتدافع والصراع أوجه قصورها ذاتيا، لا بالنظر الفكري المجرد،[30] فالجمود في التفكير الفقهي، خاصة فيما يتصل بالعلاقات الاجتماعية، نتج عن ظهور مؤسسات جديدة لإدارة هذه العلاقات لم تكن الشريعة أساسها فلم يواجه الفقهاء بأسئلة تفرض عليهم التجديد، والعلاج يكون – بالتالي – في إدارة الحياة الجمعية على مؤسسات قائمة على الشريعة، وقتها سيجبر الفقهاء على التعامل مع المشكلات الملحة واستكمال "التجديد."

 

يضع البشري – بناء على ذلك – خارطة الطريق إلى هذا التجديد، تقوم بالأساس على التمييز بين الثابت/التعبدي والمتغير/معقول المعنى في الشرع، وإدراك أثر اختلاف العصر، بأوضاعه الاجتماعية والتاريخية والإنسانية، في الحكم، وترتبط بحيثيتيه، كفقيه قانوني من جهة، ومؤرخ منشغل بالحياة الجمعية من جهة أخرى. تتلخص خارطة الطريق في ثلاثة واجبات: "أولا: أن نحفظ للعقيدة الأوضاع الاجتماعية التي تناسب رسوخها وبقائها. ثانيا: أن ندرك الأوضاع الاجتماعية والتاريخية التي لابست اجتهادات الفقهاء السابقين، ونتنبه إلى أثر الزمن في آرائهم والدلالات الواقعية للحكم المفتى به منهم. ثالثا: أن يدرك الفقه الحديث وجوه التحديات الحقيقية التي تواجه الجماعة، ويعمل اجتهاداته بما يحقق الاستجابة السليمة لهذه التحديات بما يتجه إلى نفع الأمة ويربط بين الحلول الفكرية المستخلصة والوظائف الاجتماعية المتطلبة."[31]

 

هكذا يمكن تلخيص مشروع البشري المؤرخ في الانشغال بالجماعة الوطنية المصرية، التي يدرك تاريخانية تشكلها، والأسباب المادية لوجودها، فيبحث في الحفاظ على هذا الوجود الذي يراه ضروريا إذ لا سبيل لمواجهة الاستعمار (بصوره القديمة والجديدة) إلا كجماعة بشرية متماسكة، وتلك عنده قضية أساسية، لا يكافئها في الأهمية إلا إدارة الحياة الجمعية لهذه الجماعة البشرية ديمقراطيا. ينبع عن هذين الأصلين النظر في الإطار التشريعي لتلك الجماعة، الذي يريده البشري امتدادا للذات الجماعية، متمايزا عن الإطار التشريعي للمستعمر، ويدرك – مع ذلك – ما يحتاجه هذه الإطار من تطوير ليصلح لإدارة الجماعة البشرية.  

 

المفكر: أزمة الحكم ومنطق العصيان:

بعد تحرر البشري من قيود الوظيفة بانتهاء ولايته القضائية سنة ١٩٩٨، كثرت كتاباته التي تناول فيها الواقع السياسي، فشخص مشكلاته وقدم لها مسارات للحل، وارتبط تصوره عضويا بمشروعه التأريخي، فالأزمة تتمثل في غياب ثلاثة أمور متضافرة: التحقق الديمقراطي، ومقاومة النفوذ الأجنبي، والسياسات الاقتصادية التي تضمن للمصريين "الإشباع الكافي للحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية في المعيشة" والتي تحفظ – بالتالي – الديمقراطية والاستقلال. ولا يتصور البشري "نجاحا ولا إنجازا في أي من هذه الخطوط إلا بإيجاد نوع من التنسيق بينها."[32]

 

وإذا كان البشري يرى التضافر بين هذه الثلاثة، فإن تشخيصه للداء ووصفه للدواء ينبئ بتقديمه الديمقراطية على شريكتيها، وجعله إياها الأساس الذي يقوم به الاستقلال والعدالة الاجتماعية. فالداء عنده متمثل في ثلاثة، كلها تجليات لغياب الديمقراطية: تغول الدولة على المجتمع، وخضوع أجهزة الدولة لإرادة رأسها، والحكم الفردي الناتج عن هذين الأمرين.

 

أما تغول الدولة على المجتمع، فمشكلة قديمة، بدأت مع تشكل الجماعة الوطنية المصرية، حيث حلت الدولة الناشئة محل الجماعات الأهلية في إدارة الشئون الذاتية للمجتمع.[33] وإذا كانت الدول الحديثة عامة تستبدل في تنظيم المجتمع مؤسسات حديثة بالمؤسسات القديمة، فإن الدولة المصرية فككت القديم (من طرق صوفية وطوائف وبيوت ممتدة وتجمعات جهوية ووظيفية) ولم تحل الجديد (من نقابات وأحزاب ومحليات منتخبة ومجتمع مدني بالمعنى والواسع) محله، بل حاولت عوضا عن ذلك احتكار الحكم خشية ظهور مقاومة لها في وحدات الانتماء الفرعي، التي أدى إزهاقها إلى اختلال "التوازن المطلوب بين سلطة الدولة وبين الجماعات الأخرى"[34] فغاب ما يحفظ المجتمع من استبداد الدولة، إذ تحلل المجتمع – بغياب وحدات الانتماء تلك - إلى أفراد، يفتقدون "الشعور بالجماعية أيا كانت،" وصار المواطنون "مبعثرين أفرادا لا يجتمع الغالب منهم في تجمعات منتظمة ولا يحيون مع ذويهم من أهل المهن أو الحرف أو الأقاليم أو المذاهب أو الملل أو العشائر"[35] فاقتصر وجودهم السياسي على اجتماعات في الغرف المغلقة، مفتقدة للاتصال بالجماهير، وعاجزة – بالتالي – عن إيجاد أي أثر مؤسسي أو سياسي لوجودهم الافتراضي.

 

الحرص على هذه الكيانات الوسيطة يعكس مركزية الديمقراطية في مشروع البشري من جهتين، فهو أولا – وعلى عكس جل مفكري الدولة الوطنية – لا يريد للدولة الفوقية أن تهيمن على المجتمع، ويريد تكوينات اجتماعية قادرة على إخراج المجتمع من أسر الدولة، وإخضاعها لإرادته، ثم هو ثانيا لا يريد للتنوع المجتمعي أن تطمسه الدولة المركزية الواحدة، بل يريد كيانات وسيطة تحفظه بالتدافع والتصارع بينها على الحدود لا الوجود.

 

ومع خروج المجتمع عن المعادلة بتحلله لعناصره الأولية، يبقى القدر المستطاع من الحكم الرشيد مرتهنا بكفاءة أجهزة الدولة في الإدارة، وكان البشري – بحكم احتكاكه مع تلك الأجهزة خلال عمله في مجلس الدولة – يثق إلى حد بعيد في كفاءتها الفنية، ويرى تحللها وإخضاعها للإرادة السياسية للجالس على رأس السلطة الضلع الثاني للأزمة السياسية.

 

تتبع البشري، في مقالة بعنوان "علم الاستبداد والطغيان" التحولات القانونية والاجتماعية التي ساهمت في إخضاع جهاز الدولة لإرادة الجالس على رأس السلطة، أما التغييرات القانونية فتمثلت في حزمة من القوانين التي غيرت المراكز القانونية، وأضعفت عناصر الأمان الوظيفي للقائمين على جهاز الدولة، ورهنت بقاءهم في وظائفهم بالمشيئة الفردية لرؤسائهم، الذين تحرروا من أي قيود في فصلهم عن العمل تعسفيا. فالقانون  ٢٠٣ لسنة ١٩٩١، على سبيل المثال، أخضع شركات القطاع العام لوزير واحد يعين ويعزل من يشاء في مجالس إداراتها، وتعديلات القانون ٢٣٢ لسنة ١٩٥٩ الخاص بتنظيم الخدمة العسكرية وضعت حدا أقصى للبقاء في وظائف الرتب العليا يحال بعدها شاغل الوظيفة إلى التقاعد إذا لم يرق منها إلى الرتبة الأعلى أو يمد له سنة فسنة، ونزلت بهذا الحد لرتبة العقيد وبالمدة لثلاثة سنوات، والقانون ٢٠ لسنة ١٩٩٨ الخاص بتنظيم الشرطة، سار على ذات النهج، والقانون ١٤٢ لسنة ١٩٩٤ الخاص بتنظيم الجامعات العامة، جعل اختيار العمداء بالتعيين لا بالانتخاب، وزاد فاعلية القرارات التي تصدر من أعلى، وجعل من حق المستوى الأعلى أن يرأس اجتماعات المجالس الأدنى.[36]

 

وأما التغيرات الاجتماعية – المقترنة بالقانونية – فتمثلت في اتساع الهوة بين الأجور والأسعار، والتي أدت لظهور نظامين للأجور يتميز أحدهما عن الآخر بالرضا السياسي، إذ تم تعويض المرضي عنهم ببدلات وحوافز، "ليست جزءا من الأجر الأساسي وبالتالي فلا مشكلة قانونية في إلغائها،" واضطر سواهم لإيجاد أعمال إضافية للوفاء بالاحتياجات الأساسية. كل ذلك ساهم في إخضاع الجهاز التنفيذي بالكامل للإرادة السياسية لرأس السلطة، بقطع النظر عن أي اعتبارات تتعلق بالمهنية والعدالة والقانون. كل هذا دفع البشري لأن يرى الأجهزة الحكومية "مكرهة" في عملها.[37]

 

الأزمة الثالثة، والناتجة عن للأزمتين السابقتين، هي شخصنة الحكم. فإذا كان المجتمع قد تحلل إلى عناصره الأولى فصار أفراده عاجزين عن الفعل السياسي، وإذا كان جهاز إدارة الدولة قد تحول من الولاء للمهنة والقانون إلى الولاء للسلطة العليا للدولة، فإن الفاعل السياسي المؤثر الباقي هو رأس السلطة، الذي صار – بحكم تغير بنية الحكم "غير مسؤول"، أي لا توجد جهة تملك محاسبته، فإرادته "فردية نافذة لا تراجع إلا أن يكون ضغطا عليها يمارس من الخارج."[38] أي أن الخيار صار – بسبب هذا الخلل البنيوي – مقتصرا على الاستبداد، متمثلا في هذه الدولة المتشخصة، أو النفوذ الأجنبي متمثلا في الضغط الواقع عليه من الخارج، وكلا الأمرين يمنع الجماعة الوطنية – التي هي مركز اهتمام البشري – من التعبير عن نفسها بشكل ديمقراطي، ومن رعاية مصالحها الاقتصادية، وحماية تنوعها.  

 

من هذا التشخيص نبع تصور البشري لإصلاح الوضع السياسي. فالانتقال لإدارة ديمقراطية رشيدة للحياة الجمعية عنده يقوم على أمرين ينبغي أن تتكون منهما الأجندة السياسية للقوى المختلفة: أحدهما يتعلق بتنظيم أجهزة الدولة، والآخر بتنظيم القوى المجتمعية. أما الأول، فيرى البشري أن "المطلب الغائب الذي يتعين أن تشمله مطالب الحركات السياسية الوطنية والديمقراطية هو إزاحة عوامل الإكراه" عن مؤسسات الدولة.[39] إذ هذا الإكراه هو – بحسب البشري – السبب الرئيسي لانحراف تلك المؤسسات عن مقومات الحكم الرشيد، فالقضاء – على سبيل المثال - كان "النظر إليه سلبيا بسبب بعض الأحكام التي لم تلق قبولا عند المطالبين بالحريات،" ولم يدرك هؤلاء أن القضاء كان في إصدار تلك الأحكام مكرها، وأنها نتجت عن "هيمنة السلطة التنفيذية على ادارة شؤون القضاة عن طريق وزارة العدل."[40] يركز البشري على سؤال تحرير المؤسسات الواقعة تحت الإكراه، ولا يتناول – في المقابل – الكفاءة المهنية ومعايير الانضباط الأخلاقي التي تكفل لهذه المؤسسات درجات كافية من التقويم الذاتي وتضمن وفاءها بمسؤولياتها الدستورية، وهذا العزوف عن الخوض في تلك المسائل يظهر أكثر ما يظهر عند كلام البشري عن مؤسستي الجيش والقضاء، ويمكن فهم ذلك في إطار أهمية هاتين المؤسستين لقضية الاستقلال المركزية عنده (الجيش ضروري للاستقلال المادي بالإزاحة المادية للمحتل/المستعمر/العدو، والقضاء/القانون هو أساس الاستقلال الحضاري/التشريعي)، كما أن الوطنية المصرية نشأت تاريخيا في هاتين المؤسستين في القرن التاسع عشر.

 

أما القوى المجتمعية فيرى البشري أن مشكلتها الأساسية غياب التنظيم. فالغضب الشعبي، أو الإرادة الشعبية، مهما بلغت، لا قيمة لها حقيقية "إلا بالتنظيمات التي ينتظم فيها فئات وطبقات وتجمعات"، وبغير التنظيم "لا يتحول الرأي العام السياسي إلى قوة مادية" يستطيع بها تحقيق أهدافه والدفاع عن إرادة الجماعة الوطنية.[41] وينبغي على الراغبين في إصلاح الأوضاع السياسية لأجل ذلك أن ينتظموا في جماعات سياسية قادرة على الفعل الجماعي أكثر من انشغالهم بالمشكلات النظرية. وأذكر أني سنة ٢٠٠٧ تقريبا، ذهبت للمستشار البشري، وكنت وقتئذ عضوا في تنظيم سياسي كان في جلساتي السابقة معه شديد النقد له، واستشرته في ترك هذا التنظيم، فاختلف معي، لما يراه من أهمية العمل التنظيمي، ولو أدى ذلك للتعايش مع مشكلات تنظيمية وفكرية والاشتباك معها من الداخل.

 

الدعوة للتعايش مع المشكلات التنظيمية لم تكن تعني عند البشري غض الطرف عنها. إذ يرى البشري أسلوب إدارة التنظيم كاشفا عن أفكاره أكثر من برامجه وكلامه، ويذهب لوجوب النـظر في سبل إدارة التنظيمات والأحزاب المتقدمة للسلطة، إذ يحمل كل تنظيم في داخله صورة الدولة التي سيقودها، و"الأسلوب الذي يُبنى به الحزب السياسي ينعكس على تنظيم الدولة عند توليها بأكثر مما تنعكس الأهداف السياسية والاجتماعية لهذا الحزب على الدولة."[42]

 

خلاصة الأزمة السياسية عند البشري هي شخصنة الحكم التي تخير الجماعة الوطنية بين مطرقة الاستبداد وسندان النفوذ الأجنبي. رفض الاستبداد مطلقا كما رفض أي تأثير على الجماعة الوطنية من خارجها، فلم يفرق بين الدول والمجتمع المدني واعتبر أي مساحة لأيهما انتقاص من سيادة الجماعة الوطنية على أمورها. وأمام هذين الخيارين، الاستبداد أو النفوذ الأجبني، لم ير البشري حلا إلا العصيان، الذي دعا إليه المجتمع والدولة جميعا، إذ "لم تعد ثمة شرعية واحدة تجمع بين الوجود الأهلي بتكويناته وبإرادته الذاتية وبفاعليته الحركية، وبين الإطار الذي تتواجد فيه وتعمل الدولة المتشخصنة في أفراد جد معدودين يقفون على قمة الدولة، وعما قليل إن شاء الله سيظهر أن لم يعد ثمة نطاق شرعي واحد يجمع بين تلك القمة العليا الممسكة بزمام الدولة وبين الدولة ذاتها بهيئاتها وتشكيلاتها وعمالها واسعي الانتشار في أجهزتها العسكرية والمدنية والمتنوعة."[43] ولعل هذا العصيان الذي دعا إليه البشري هو الذي رآه في ثورة يناير، التي رأى فيها تضافرا للجهود بين الجماهير ومؤسسات الدولة (وفي القلب منها الجيش) لإزاحة الرئيس مبارك عن عرشه، فرآهما شركاء في الثورة.

 

 

  • البشري في الثورة وبعدها:

 

كانت ثورة يناير لحظة فاصلة بين عصرين. قامت على دولة مبارك، التي هي امتداد مشوه لدولة التحرر الوطني، بعد أن أتى فقرها الديمقراطي على ما كانت حققته من عدالة اجتماعية، فلم يعد ثمة استقلال، ولا ديمقراطية، ولا كفاءة ولا عدالة. أسقطت الثورة في أيامها الأولى مبارك الذي كان حجر الزاوية لنظامه، فوقع الخلاف حول المقصود بعد ذلك. رأى فريق في الثورة انقاذا ديمقراطيا للدولة الوطنية، ورأى فريق آخر في الثورة إعلان وفاة لها، وإيذانا بتأسيس نظام جديد يتخطى الأسئلة المركزية التي قامت عليها شرعية الدولة، والتي فرضتها المعركة مع الاستعمار واستمرت بعده، وينظر للعالم من محل يتخطى أسئلة "الجماعة الوطنية" المتمايزة عن غيرها.  

 

ليس غريبا أن يكون البشري أقرب للتصور الأول: فإضافة لكونه ابن ثورة ١٩١٩ التي تطلعت للدولة الوطنية، عاصر البشري في حياته أحداثا - من استعمار واستقلال واحتلال وحروب تحرير - ارتبط المصير فيها بكفاءة أجهزة الدولة، وتبنى – كمؤرخ ومفكر – قضايا تلك الدولة وعلى رأسها الاستقلال عن المستعمر، وعمل في مجلس الدولة الساعي لضبط أداء أجهزة الدولة، وكتب قبل الثورة ينتقد فقرها الديمقراطي، ويدعو لعصيان مدني يستعيدها من الحكم الفردي. ولكن البشري لم يكن في موقفه هذا، الذي اشتبك منه مع الثورة واشتبكت معه، جامدا. نعم: أصر البشري على بعض المواقف، كإصراره أن الأزمة الأساسية لأجهزة الدولة كانت الإكراه، وإصراره على أهمية تماسك الجماعة الوطنية، وأولوية مقاومة التدخل الأجنبي، وأهمية الإدارة الديمقراطية للحياة الجمعية، وإصراره على المرجعية الإسلامية، أما ما سوى ذلك، بل وكل تفاصيل ذلك، فقد اشتبك فيه البشري مع ما طرحته الثوة، حاول فهمها والاستجابة لها أكثر مما حاولت معه، وتعلم منها أكثر مما تعلمت منه، وأنصفها أكثر مما أنصفته، وربما أحبها أكثر مما أحبته. 

 

اختبار مبكر: أزمة التعديلات الدستورية:

لم يشترك البشري كغيره في الزيارات السياحية لميدان التحرير خلال الأيام الأولى للثورة، واكتفي بما اعتاده من الكتابة والتعليق على الأحداث، فكتب – قبل التنحي – تقدير موقف، دافع فيه عن "شرعية الخروج على الشرعية" كما كتب قبل الثورة. غير أنه – بعد تنحي الرئيس مبارك عن الحكم – وجد نفسه في محل لم يعتده، إذ اختير لرئاسة لجنة لاقتراح تعديلات دستورية تسمح بانتقال السلطة من المجلس العسكري (الذي نقل له الرئيس مبارك سلطاته) إلى جهة منتخبة. اقترحت اللجنة تعديلات تقضي بأن يكون انتخاب البرلمان أول إجراءات الانتقال الديمقراطي، يتبعه اختيار البرلمان جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد، ثم انتخاب رئيس الجمهورية، مع اتخاذ إجراءات لمنع التلاعب المعتاد في الانتخابات، على رأسها الإشراف القضائي الكامل على العملية الانتخابية برمتها، وتخفيف شروط الترشح.

 

أثارت التعديلات المقترحة جدلا سياسيا تجدد بوفاة البشري، الذي اتهم تارة بمحاباة الإسلاميين بالتعجيل بالانتخابات البرلمانية (التي كان من المقرر بحسب التعديلات أن تعقد بعد ستة أشهر تقريبا من تنحي مبارك) على نحو يمكنهم من تحقيق الأكثرية فيها كونهم القوة الأكثر تنظيما في الساحة، واتهم تارة أخرى بالسعي للمحافظة على دستور ١٩٧١ القائم وقتئذ لأن التعديلات لم تجعل الخطوة الأولى انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد. وليس في هذه الاتهامات ما لم يناقشه البشري بنفسه، غير أن النظر فيها يصلح مدخلا لفهم تشخيص البشري للوضع السياسي، ولكيفية الوصول لوضع وطني ديمقراطي.

 

يمكن فهم التعديلات في إطار موقف البشري من ثلاث قضايا، أولاها فهمه لما جرى في يناير، والمتماشي مع دعوته للعصيان قبلها. فثورة يناير كانت عنده محاولة لإنقاذ دولة التحرر الوطني من الحكم الفردي، شاركت فيها أجهزة الدولة المواطنين. كان في الثورة ثلاثة قوى: قوى مجتمعية غير منظمة، تتحرك بغير روابط تنظيمية، وقوة مجتمعية منظمة، وهي جماعة الإخوان المسلمين، وأجهزة الدولة، التي يرى البشري أنها لعبت دورا أساسيا في إجبار مبارك على التنازل عن السلطة. تصور أجهزة الدولة كشريكة في الثورة، وتصور الثورة كحركة تسعى لاستعادة الدولة المخطوفة، يظهر في التعديلات في القبول بإدارة أجهزة الدولة للانتقال، سواء في ذلك استناد نزاهة الانتخابات للإشراف القضائي، أو إدارة المجلس العسكري المرحلة الانتقالية (التي حاولت اللجنة تقليصها) وجمعه خلالها بين سلطتي التشريع والتنفيذ. ويظهر هذا التصور كذلك في كتابات البشري في السنتين التاليتين.

 

القضية الثانية عند البشري هي أهمية التنظيم السياسي. فعلى الرغم من إعجابه بلحظة العفوية الثورية، فإن ذلك لم يزعزع اعتقاده بأن الفعل السياسي لا يؤتي ثماره في غياب التنظيم، إذ عجزت القوى التي تحركت في الثورة بغير روابط تنظيمية عن تحقيق أهداف الثورة "وهي إحلال حكم جديد محل الحكم المزاح" على نحو أتاح للقوات المسلحة – بتدخلها الحاسم لإجبار مبارك على التنحي – أن تعتلي سدة الحكم مع أنها لم تكن المحرك الرئيسي للثورة.[44] أراد البشري لتلك القوى غير المنظمة – بالتالي – أن تستغل لحظة الفوران الثوري لتؤسس لوجودها في الحكم بشكل تنظيمي، لأجل هذا كانت الأولوية للانتخابات البرلمانية، وكان المخطط أن تجري خلال ستة أشهر على الأكثر من خلع مبارك. كان دفاع البشري عن ذلك يقوم على أن التعجيل بالانتخابات يعطي مزية للأطراف التي شاركت في الثورة، لأنه يعني أن تتم الانتخابات في قمة المد الثوري الذي سيلحقه لا محالة جزر تكون الأفضلية فيه للقوى المنتظمة التي تستطيع تحريك قواعدها للإدلاء بأصواتهم في كل الأحوال.

 

القضية الثالثة هي إيمان البشري بالديمقراطية وسعيه للحفاظ على التمثيل النسبي للأطراف المختلفة في إطار تلك الدولة. الانحياز الديمقراطي جعله يعارض تعيين المجلس العسكري اللجنة التأسيسية للدستور الجديد، ويتوجس من إطالة الفترة الانتقالية التي تحكم فيها أطراف غير منتخبة بدعوى ترتيب القوى السياسية أوراقها استعدادا للانتخابات. كما يظهر الحرص على التمثيل النسبي في تقديم الانتخابات البرلمانية على الرئاسية، فالأولى تسمح كثرة المقاعد المتاحة فيها بقدر من التنسيق والتعاون بين القوى المنتمية للثورة بدل الصراع الصفري في معركة الرئاسة التي لا يفوز فيها إلا واحد، وهو ما يؤجل الصراع إلى ما بعد مرحلة التأسيس (التي يتم فيها أيضا وضع الدستور).

 

لم يكن موقف البشري "أيديولوجيا" هدفه خدمة التيار الإسلامي كما زعم بعض نقاده (لا سيما محمد البرادعي، الذي قاد حملة اغتيال معنوي للبشري، تكثفت عند كل التزام انتخابي أراد البرادعي تجنبه، وهو الذي لم يفوت التزاما ديمقراطيا، سواء كان انتخابا أو استفتاء، إلا وحاربه ودعا لإيقافه وربما قاطعه، مطالبا – على الدوام – بتدخل غير ديمقراطي، إما بتعيين جهة غير منتخبة للإدارة السياسية، أو بتغيير خارطة الطريق التي استفتي الشعب عليها، أو بتقييد عمل الجمعية التأسيسية للدستور بقواعد تفرضها عليها جهة غير منتخبة، أو بأحداث يوليو 2013 التي أدخلته قصر الرئاسة، وفي كل مرة تتوجه سهام نقده للتعديلات الدستورية التي اقترحتها لجنة البشري، واعتمدت في استفتاء شعبي، لأجل مثل هذه المواقف انتقد البشري في كتاباته بعد الثورة "الخائفين من الديمقراطية"[45])، بل ربما كان الأقرب للصواب أن البشري في شرحه للتعديلات كان أحرص على مصالح القوى الثورية غير المنظمة وأخوف على مصيرها إذا وصل المد الثوري لمنتهاه وبدأ التراجع من غير أن تتحول هذه العفوية لوجود مؤسسي مؤثر. نعم: ربما انطلق البشري في ذلك من رغبة في دمقرطة الدولة الوطنية القائمة، لكن اختياره كان محكوما بالأساس بتقديره لموازين القوى على الأرض، ورغبته في أن تتولى الثورة السلطة، ثم تقرر لنفسها ما تشاء من موقع القوة التي تستطيع من خلاله إنفاذ مشيئتها، كما أن التعديلات التي اقترحها ألزمت البرلمان بوضع دستور جديد، على نحو يسمح – إن لم يكن يوجب – تأسيس دولة جديدة تحل محل القائمة.

 

صراعات التأسيس الجديد-القديم:

 

لم تكن التعديلات الدستورية سوى خطوة إجرائية في طريق تأسيس دولة يناير، سواء كانت نسخة ديمقراطية من دولة يوليو أو كانت دولة جديدة، فكلا الخيارين كان متاحا، مع خيار ثالث قضى عليهما. وفي خلال السنتين اللاحقتين للاستفتاء، تكثفت الصراعات حول شكل تلك الدولة الجديدة، ودار الصراع حول محاور أهمها الهوية الإسلامية، والإصلاح المؤسسي لأجهزة الدولة، وإخضاعها للسلطة الديمقراطية، وإدارة الصراع بين الأطراف السياسية المختلفة. عاد البشري – بعد أن اقترح ولجنته التعديلات الدستورية – من دائرة الفعل المباشر إلى دائرة الكتابة، فكتب ما يزيد على عشرين مقالا، تناول خلالها تلك القضايا المختلفة، مستندا إلى مشروعيه التأريخي والفكري، ومضيفا إليهما بتفصيل المجمل تارة، وبتعديل الموقف تارة أخرى.

 

أولى القضايا التي تناولتها كتابات البشري قضية الهوية والمرجعية، والتي أكد فيها على موقفه السابق، بانحيازه للهوية الإسلامية كتجسيد للموروث، ثم فصّل ما كان أجمله قبل الثورة، ففرق بين المرجعية ومشروع تقنين الشريعة، إذ المرجعية/الهوية أمر قائم بالفعل، "فإن مصر لا تكتشف هويتها اليوم، والهوية أمر لا نختاره ولكن يرجع إلى جماع التركيب الثقافي السائد في المجتمع،"[46] خلافا لمشروع التقنين الذي تحمله بعض الأطراف ويقوم على تصور معين – أضيق من سؤال المرجعية في جميع الأحوال – لكيفية إدارة المجتمع. وهذه المرجعية عند البشري ليست قوانين، وليست توجها بعينه، بل هي "كشأن اللغة في الجماعة...هي تحيط بالجماعة بوصفها من أسس نسيجها المعنوي، وهي قد تتطور عبر المراحل التاريخية وقد تتغير في الكثير من مفرداتها بحكم التبادلات الثقافية مع الجماعات الأخرى، فيدخلها جديد ويزوي منها قديم."[47] فالمرجعية – وفق هذا التصور – هي إطار لتحصيل الحقوق، يؤدي إقرار الدستور بها لإنهاء القطيعة بين لغة المحكومين ولغة الدولة، إذ تسمح بأن تكون لغة تحصيل الحقوق أكثر اتصالا بالناس، بأن يستند المواطن في دفاعه عن بعض حقوق الإنسان إلى نص عبارة لعمر بن الخطاب بدل استناده للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مع إمكانية استناد غيره من المواطنين للإعلان، على سبيل المثال.[48] لأجل هذا يرى البشري الإقرار الدستوري بهذه المرجعية ضروريا، إذ بدونه – كما سبق- لا تبقى شرعية للدولة تمارس بها مهام تنظيم المجتمع.

 

هذا التصور للمرجعية، كأمر قائم بالفعل، دفع البشري لانتقاد الصراع السياسي الدائر حولها، والذي صرف النظر عن قضايا جادة تتعلق بتنظيم مؤسسات الدولة وتنظيم العلاقات بين الأطراف المختلفة في المجتمع وبين السلطات، ومن "غير المجدي لنا بوصفنا جماعة وطنية أن نتحارب هكذا في إطار كليات مجردة...ويتعين أن نتجاوز هذا المستوى التجريدي إلى مستويات أقرب إلى التفريعات المتصلة بالشئون والمسائل الحياتية."[49] تحدث البشري كثيرا عن أن افتراض التناقض بين المدنية والدينية هذا يقوم في الأغلب بين الفلاسفة والمفكرين، لا بين المشرعين والقانونيين، الذي يرون إمكانية التوفيق في الجزئيات والتفريعات، بدل النزاع على الأفكار الكلية.

 

خطورة الجدل حول الهوية والمرجعية عند البشري أنه يستهلك الجهد المفترض بذله في السعي لتأسيس ديمقراطي، وهو ما ينبغي أن يكون أولوية "لأن كل ما استشرى في المجتمع المصري من سلبيات وانتكاسات وفساد كان عن طريق الحكم الاستبدادي الفردي، والديمقراطية نظام للحكم وأسلوب لإدارة المجتمع بطريقة تكفل وتقود إلى ما يرنو إليه من إصلاح ونهوض وعدالة واستقلال."[50] والبناء الديمقراطي عند البشري يقوم على ثلاثة أمور: بناء كيانات الانتماء الفرعي، الجهوية والوظيفية والدينية وغيرها، التي تمكن المجتمع أن يحكم نفسه ذاتيا في جل الأمور، وبناء التنظيم السياسي الذي يمكن من تولى مقاليد الدولة، وضبط عمل أجهزة الدولة وعلاقة الجهات المنتخبة بها.

 

أما التنظيم المجتمعي والتنظيم السياسي فسبقت الإشارة إليهما، وأما ضبط أجهزة الدولة فبدأ البشري النظر فيه من موقفه السابق، الذي يرى أصل الداء في دولة مبارك إخضاع جهاز الدولة للإرادة الفردية لرأس السلطة، ويرى تلك الأجهزة شريكة في الثورة. من هذا المنطلق تفهم البشري احتياج هذه المؤسسات لقدر من الاستقلال، فتفهم احتياج القوات المسلحة للسرية والتكتم في إدارة سياساتها،[51] ودافع "أشد الدفاع عن السلطة القضائية بهيئاتها جميعا وبمؤسساتها كلها"[52] وسعى للحفاظ على استقلالها عن السلطة التنفيذية. ولكن ذلك لم يمنعه من انتقاد تلك المؤسسات، فالحفاظ على السرية في عمل القوات المسلحة "لا ينبغي أن يتنافى مع هيمنة المؤسسات الديمقراطية في حكم البلاد" ومقاومة "السعي لأن يكون للقوات المسلحة في الدستور الجديد تشكيل مؤسسي دستوري منغلق على ذاته ومستقل عن أية رقابة من مؤسسات الدستور الأخرى."[53] وبعض "الأحكام والتصرفات القضائية" تجاوزت "ضوابط الأداء الوظيفي."[54] وكان نقده نابعا عن إيمان بأن تلك المشكلات عارضة، ظهرت "بسبب ما ولدته الثورة من هياج واضطراب"[55] وأنه – بالتالي – ينبغي أن يقوم السعي لعلاجها على إضفاء الاستقلال على المؤسسات، والرهان على الوقت الذي سيصل بالمؤسسات لاستقرار على أوضاع جديدة، إذ "علاج المؤسسات النظامية التي من هذا النوع لا يكون بالهدم والقتل ولا بالجراحات الحادة، ولكن يكون بالمعالجات الدوائية الصبورة، ونحن سنفقد أساسا من أسس تطورنا الحضاري إذا لجأنا إلى التدمير والتصفيات المؤسسية."[56] وعليه "قد نختلف مع المحكمة الدستورية في بعض ما تنتهي إليه، سواء في منطوق أحكامها أو في الأسباب التي بنيت عليها الأحكام، ولكن لا يجوز على الإطلاق أن نغض الطرف عن مبدأ حمايتها."[57] فخلاصة المسألة الأولى في تنظيم مؤسسات الدولة أن البشري يرى ما في هذه المؤسسات من مشاكل، وأصل الداء عنده عالجته الثورة، وبقيته سيعالجه الزمن، وينبغي ألا يتخذ وجود الداء تكأة لتدمير تلك المؤسسات.

 

المسألة الثانية هي قوة هذه المؤسسات التي نبه البشري إليها مرارا، فأكد أن "مراكز القوى السياسية في المجتمع ليست فقط تتمثل في الأغلبية الشعبية ولا في التنظيم الحزبي الشعبي الواسع المنضبط، وأن القوة السياسية الفعالة المؤثرة قد تكون مرتكزة على أجهزة الدولة وتستمد عنفوانها منها."[58] استدل البشري على ذلك بوجود العسكريين في الحكم بعد عزل مبارك مع كون غيرهم المبادر بالسعي لإزاحته، بناء على هذا التقدير للقوة النسبية لأجهزة الدولة لم يرد البشري للقوى السياسية أن تبادر بالاصطدام بها، بل "كان المأمول أن تتهيأ القوى النظامية بمجلس الشعب مع القوى النظامية في مؤسسات الدولة وأجهزتها على التآزر والتعاون للعبور بمصر إلى ما يحقق أمانيها،" وهو ما حال دونه سعي الإخوان للسيطرة التامة على السلطات الأخرى.[59] انتقد البشري هذا السعي للسيطرة، إذ رأى أثره السلبي المتمثل في تفتت القوى المجتمعية (باحتداد الصراع بين الإخوان والقوى الأخرى) من جهة، وفي محاربة أجهزة الدولة تلك للقوى المنتخبة الساعية لفرض سيطرتها من جهة أخرى، على نحو تجسد – على سبيل المثال – في "تكاتف أجهزة الدولة المصرية" على حل البرلمان، و"وأده وإزهاق روحه قبل أن يكمل الشهر الخامس من وجوده" وهو الحل الذي رأى فيه البشري دليلا على أن أجهزة الدولة "لا تحتمل مجلسا شرعيا."[60]

 

أدت هذه التحولات – التي كتب البشري كثيرا في السعي لتجنبها -لتغير رؤيته للصراع، إذ لم تعد مشكلة أجهزة الدولة عنده تبعيتها للإرادة المنفردة للجالس علي رأس السلطة، بل صار العكس هو الصحيح، فجهاز الدولة "إنما يشبه القلعة، ومن يحكم القلعة من الناحية التنظيمية إنما يترجح نجاحه في حكمها وإحكام السيطرة عليها بقدر ما يكون من رجالها، وأن القلعة من خصائصها أن من دخلها من خارجها إما أن يسيطر عليها فتدافع عنه وتحميه وإما أن تسجنه فيصير حبيسا بها."[61] نتيجة هذا التصور أن إصلاح أو دمقرطة هذه الدولة غير ممكنة، فهي إما أن تحتوي الداخل إليها فيصير مثلها، وإما أن تلفظه فتبقى على هيئتها. هذه القناعة – فيما يبدو – ازدادت رسوخا عند البشري في الأشهر والسنوات اللاحقة، خاصة بعد أحداث يونيو ويوليو ٢٠١٣، وشكلت خيبة أمل للبشري في الدولة التي آمن بها طويلا، ويبدو – من حوارات قليلة معه في السنوات الأخيرة – أن فقرها الديمقراطي أضعف إيمانه بها، على أقل تقدير.

 

 

رهان المؤرخ وحكم القاضي:

 

"إن قول الحق لا يدع لي صديقا. وبعبارة أدق فإن ما أحسبه قول حق لا يدع لي صديقا، وهذا ما سعيت إلى التمسك به ما وسعني السعي في الأيام الماضية، وأرجو الله سبحانه أن يعينني عليه ما بقي لي من أيام تالية."[62] بهذه العبارة افتتح البشري مقالا كتبه في نهايات سنة ٢٠١٢، بعد سنتين على الثورة، اشتبك خلالهما مع كافة الأطراف السياسية، فتلقى أسهم النقد منها جميعا، بعد أن كان جلها يرى فيه قبل الثورة حليفا أو نصيرا، بسبب عمله في القضاء، وتأريخه لمؤسسات الدولة وفي القلب منها القضاء والقوات المسلحة، وتأريخه للروافد الأربعة للوطنية المصرية.

 

لم ينحز البشري لأي من الأطراف السياسية، وإنما انحاز لقناعاته المتشكلة عبر سنوات أمضاها في القضاء، وفي البحث التأريخي والنظر السياسي، انتقد الممارسة السياسية للمجلس العسكري حين "انتهز فرصة صدور حكم المحكمة الدستورية وما ورد بأسبابه (دون منطوقه)" ليحل مجلس الشعب حتى يستعيد سلطتي التشريع والتنفيذ على نحو "يمكنه من إصدار أحكام دستورية جديدة، ينهي بها المسار الدستوري الذي كان مرسوما منذ ٣٠ مارس ٢٠١١، ويبدأ مسارا جديدا مناقضا،"[63] وانتقده مرة أخرى حين أصدر- بين جولتي الانتخابات الرئاسية – إعلانا دستوريا، من دون أن يكون له "أدنى سلطة شرعية" لإصداره، فرآه والعدم سواء.[64] وانتقد – كما سبق- الأحكام الصادرة عن المحكمة الدستورية مع تأكيد حرصه على حمايتها، وانتقد في الإخوان حرصهم على الاستبداد بالسلطة، الذي "استدعى...أن تتكتل ضده كل القوى السياسية،" كما انتقد قيام الحزب التابع لهم "باستخدام السلطة التشريعية في تحقيق مكاسب ذاتية،"[65] ذلك مع دفاعه عن أحقية الجماعة في تقديم مرشح للرئاسة، وعن حق الأغلبية البرلمانية في أن تلعب الدور الأكبر في تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور،  وانتقد في التيار الليبرالي تركيزه على معركة الهوية لصرف انتباه الرأي العام عن " قضايا أساسية ملحة، وهي قضايا السياسات التي يجب أن تتبع بعد الثورة من حيث السعي لأن تسترد مصر إرادتها الذاتية المعبرة عن الصالح الوطني،"[66] ودافع مع ذلك عن وجوده ودوره و"عمق الثقافة السياسية التي يحملها...من نفوذه في المجتمع وخبراته في التأثير على الرأي العام ومواقف الغالبية الوطنية من عناصره،"[67] رغم ما يمر به من "ضمور للنشاط التنظيمي" أضعف قدرته على تحريك الجماهير في الانتخابات.[68] وهذه كلها أمثلة لمواقف البشري من التيارات السياسية المختلفة، وهي يسير من كثير في كتاباته في السنتين اللاحقتين للثورة.

 

لم ينحز البشري لأي من تلك الأطراف، على الرغم من إدراكه أن الاستقطاب "بين طرفين كلاهما في تقديري جانح عن التوازن...لا يترك...مجالا للمواقف المتوازنة ولا للحديث والتعليق الموضوعي على الأحداث والتصرفات، وأن أي نقد لأي طرف يستغله الطرف الآخر بما لا يبقي وجها للاستقلال عنه أو التميز عنه، وأي تأييد لموقف لأحد الطرفين يعتبر انحيازا له لدى الطرف الآخر...ولكنني بمشيئة الله سبحانه واعتمادا عليه لن أنصاع لهذا الوضع."[69] إذ كانت قضيته التي انشغل بها – كما قال لي أكثر من مرة خلال سنوات الثورة – الحاجة للجسور التي تصل بين الأطراف المتخاصمة، وتبني على القواسم المشتركة بينها، ليقوى التيار الرئيسي الذي يحفظ الديمقراطية. كان البشري يحافظ على هذه الجسور ما استطاع لذلك سبيلا، ولا أدل على ذلك من الكتابات المنشورة بعد وفاته، والتي يظهر منها أن بيته كان مزارا يتردد عليه الكافة باختلاف أعمارهم ومواقعهم وتوجهاتهم. كان البشري يرى الكل مسؤولا عن الاستقطاب، كما كان "إثم السعى للإقصاء...موجودا عند كل الفرقاء."[70] ولكنه مع ذلك كان يلتمس العذر للجميع، سواء في هجومهم عليه، أو في حربهم المتبادلة، لا كموقف أخلاقي فحسب، وإنما كمؤرخ، يدرك أن سبب هذا السلوك أن تلك الأطراف كانت "بعيدة نسبيا عن التصدي المباشر للعمل السياسي،"[71] وأن الممارسة والخبرة، وإدراك حتمية العيش المشترك لأن بديله الوحيد القمع، ستصلح الأحوال.

 

لم يتصور البشري حلا سحريا لهذه المشكلات، وإنما كان الحل الذي قدمه ودافع عنه هو الإصرار على الممارسة الديمقراطية التي من شأنها أن تقوم نفسها. فكتب أن العوار الذي يعتري المشهد السياسي "يعالج بالنقاش والجدل الفكري البناء مع الصبر والتزام الموضوعية، ولن يجدي معه أبدا الهدم والعدوان والتهديدات التي تصدر من بعض القوى السياسية."[72] تمثل المطلب، والأمل، الوحيد للبشري في كلمة واحدة، كتبها قبل أيام معدودة من أحداث يونيو ويوليو ٢٠١٣: "أن يتحمل بعضنا بعضا بغير إقصاء ولا استبداد."[73] لذا لم يكن موقف البشري غاضبا، حاسما، إلا عندما وقع هذا التدخل الذي رآه ردة عن الديمقراطية، ووأدا لمسار من شأنه – مع كثرة ما فيه من مشكلات- أن يقوم ذاته، وأن يزيد تماسكه. كتب البشري – بأسلوب القاضي، بعد أن قدم حيثيات حكمه، لا بأسلوب المؤرخ والمفكر الذي اعتاده قبلها، أن "ما يتعين التمسك به الآن هو الآتي: أولا دستور ٢٠١٢ لا يزال قائما معمولا بأحكامه ويتعين إعماله وهو دستور مستفتى عليه شعبيا."[74] وللأسباب ذاتها، وبالمنطق ذاته، كان البشري حاسما في رفضه لقانون التظاهر بعد ذلك بأشهر قليلة، إذ القانون هذا "هو حجر الزاوية الذي تستحيل به أيه أحكام دستورية تتغنى بحقوق الشعب، تستحيل به إلى محض خطب عصماء وأغنيات شجية،"[75] أي تنتهي به الممارسة الديمقراطية. وكذلك في القضاء: غضب البشري من التعامل العنيف من القضاة ممن أظهروا موقفا سياسيا مخالفا لسلطة الحكم الجديدة، فكتب يهيب "بالجهات المسؤولة عن إدارة الهيئة القضائية الآن أن تكون أكثر حيادا واستقلالية في إدارتها للشأن القضائي وفي تعاملها مع القضاة، وإذا لم يكن من يدير الشأن القضائي هو الأكثر مراعاة لاستقلاليته في تعامله مع القضاة، فمن يمكن أن يوثق فيه ويطمأن إليه في هذا الصنيع؟"[76]

 

كان وأد التجربة الديمقراطية، التي رأى البشري قصورها، وانتقد الحكام فيها، سببا لمراجعات إضافية للبشري. فابن ثورة ١٩١٩، والذي بدأ مشروعه الفكري في ظلال دولة يوليو، كانت الديمقراطية عنده مرتبطة ذاتيا، وعضويا، وتلقائيا، بالاستقلال، ثم بالعدالة الاجتماعية. فوجئ البشري – فيما يبدو – بانفصال تلك الأمور خلال الثورة، فوجئ بأن الديمقراطية المسموح بها لا يؤدي للعدالة الاجتماعية ولا تسمح بإعادة التوزيع، فكتب – مع وصول الإسلاميين للحكم وسيطرة الصراع حول الهوية - أن الديمقراطية تصير "شعارا أجوف إذا لم ترتبط وتوظف لخدمة حل المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها المجتمع، لأنها تفيد في النهاية أن يكون الحكم معبرا عن إرادة المواطنين، ويستحيل تصور هذا التعبير إلا أن يكون مناسبا لمصالح الشعب في الاستقلال والنهوض وإشاعة القدر المناسب من العدالة الاجتماعية التي تحفظ التوازن بين طبقات الشعب، فالديمقراطية يتعين أن تحتوي هذه الأحداث في صورتها العينية وفي برامجها الواقعية وإلا فقدت وظيفتها."[77] أكد البشري هذا المعنى مرة أخرى بعد أحداث يونيو ويوليو 2013، فكتب أن المغزى العميق لهزيمة الثورة هو أن الظهور الديمقراطي إذا لم تكن له مضامين سياسية وطنية وثقافية واجتماعية تخدم القطاع الأوسع فإنه لا يستقر[78].

 

دفعت الأمواج المتلاطمة لثورة يناير وما تلاها البشري لتفصيل مواقف كان قد أجملها، وأضعفت إيمانه بدولة كانت منزلتها قبل ذلك عنده عالية، واضطرته لإعادة التفكير في معنى الديمقراطية، ولكنها – مع ذلك – لم تؤثر كثيرا على القضيتين الأساسيتين للبشري: إيمانه بالجماعة الوطنية وإمكانية إدارة العيش المشترك فيها ديمقراطيا، وإن كانت في ذلك بعض العقبات التي سبيل علاجها الديمقراطية أيضا، وتوجسه من التدخل الأجنبي، باعتبار الجماعة المصرية متمايزة عن غيرها، وعدم اعتباره للفروق بين الصور والمصالح والمقاصد المختلفة لهذا الأجنبي، ودرجة تقاطعها أو تعارضها مع الجماعة الوطنية، التي أصر على وجود مصلحة جامعة لها.

 

خاتمة:

 

سعى المستشار البشري لمصلحة الجماعة الوطنية التي انتمى إليها، سعى لأن تتحرر تلك الجماعة من تسلط غيرها عليها، سواء كان الغير فردا مستبدا أو نفوذا لجماعة غيرها. اختلفت مواقفه في بعض الأحيان لأنه – كمؤرخ – يعتبر التغير عبر الوقت، ولأنه – كقاض – ينظر في كل واقعة بشكل مستقل، ولأنه – كمفكر – لم يكن أسير تصورات أيديولوجية تعميه عن رؤية ما يستجد من وقائع. ومع هذا التغير في المواقف في مسيرة فكرية استمرت أكثر من نصف قرن، تبقى أهم ملامح مشروع البشري هي إيمانه بالديمقراطية، فهو يؤمن أولا بمنع السلطة التعسفية للحاكم، إذ تصرف الفرد في المجموع ممنوع. ثم هو يؤمن بأن المرجعية القانونية لا بد أن تكون معبرة عن الأغلبية وإلا كانت تصرفات الدولة عدوانا محضا، ثم هو يبحث في سبل الحفاظ على حقوق الكافة من داخل هذا الإطار القانوني، يبحث في ذلك بنفسه كقاض ومؤرخ ويحض غيره على البحث فيه. وهو يؤمن بأن الممارسة الديمقراطية هي الدواء للجمود الفقهي والقانوني، بها ينشط الاجتهاد، ويؤمن بأن تلك الممارسة القادرة على تقويم نفسها وعلاج أخطائها، وأن تكلفة وأدها ستكون دوما أفدح – حتى على الأطراف الخاسرة فيها – من تكلفة علاجها من داخلها.

 

آمن البشري بالدولة مع إيمانه بالديمقراطية. ارتكز إيمانه بها على سنوات طويلة قضايا في تقويم عملها، وأقام عليه تصورات سياسية قبل الثورة وبعدها، ثم حين تبين له خلاف ما كان يظن، حين تعارض الإيمان بالدولة مع الإيمان بالديمقراطية، انحاز للثانية، وإن لم يكفر بالأولى.

 

سعى البشري لمصلحة من أحبهم وانتمى إليهم، أراد للجماعة الوطنية العيش أبدا فبحث في سبل إدارة العيش المشترك فيها بصورة سلمية ديمقراطية، تقوم على الصراع والتدافع، ولكنها تنمي القواسم المشتركة لتحفظ الديمقراطية وتمنع أن يؤدي الصراع لتقطع الأشلاء. سعى لذلك، ولا شك أنه – مع وفور حرصه – قد أصاب وأخطأ، واعتذر البشري عن ذلك بأنه "خطأ مجتهد" قد استنفذ الوسع، واجتهد في تحرير "المسافة الصغيرة، التي لا تجاوز حجم الحصاة، والتي تقع بين سن القلم وسطح الورق" من كل دخل وغصب وغواية،[79] فلم يعد ثمة سبيل للعتب عليه، كما لم يعد ثمة سبيل لمناقشته في أفكار هو صاحبها، ولم يبق إلا مناقشتها والاستفادة منها، عسى أن يكون في مناقشتها ما به نحيا أبدا.

 

الهوامش

 

[1] طارق البشري، "كلمة المستشار طارق البشري" في "طارق البشري القاضي المفكر: الأعمال والبحوث التي ألقيت في الندوة العلمية الأهلية للاحتفاء بالمستشار طارق البشري بمناسبة انتهاء ولايته القضائية بمجلس الدولة المصري"، تحرير إبراهيم البيومي غانم، دار الشروق، ص ٥٨

[2] طالع الحكم من هنا  https://manshurat.org/node/71325

[3] تحدث البشري عن هذه الواقعة ورد فعله إزاء الهجوم الذي تعرض له في البرلمان في لقاء تليفزيوني سنة ٢٠١١. انظر https://www.youtube.com/watch?fbclid=IwAR3y3RdxRcahriEdjLc4J5BejjRo26WpS...

[4] طارق البشري، القضاء المصري بين الاستقلال والاحتواء، دار الشروق، ص ٥٣

[5] في خريف سنة ١٩٨١، صادرت السلطات كتابه "المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية." ولم أعرف بهذه الواقعة من البشري أبدا، إذ لم يكن يحب أن يكون هو موضوع حديثه، ولا أعرف أنه تكلم في هذه الواقعة مع أي أحد، بل بقيت واقعة عرف بها من عرف بها في حينه، ولم أعرف بها إلا من قراءة كلمة ابنه المستشار عماد في ندوة تكريمه. انظر عماد البشري، "أبي طارق البشري"، في طارق البشري القاضي والمفكر، ص ١١٦

[6] طارق البشري، المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية، دار الشروق، ص ١١-١٢

[7] طارق البشري، الحركة السياسية في مصر ١٩٤٥-١٩٥٢، دار الشروق، ص ٣٥، طارق البشري، المسلمون والأقباط، ص ٣٥-٣٧

[8] طارق البشري، المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية، دار الشروق، ص ١١-١٢

[9] طارق البشري، المسلمون والأقباط، ١٢

[10] طارق البشري، نحو تيار أساسي للأمة، دار الشروق، ص ٧

[11] طارق البشري، يوليو والديمقراطية، دار الشروق، ص ١١

[12] طارق البشري، في الجدل حول المدنية والدينية، جريدة الشروق، ٧ نوفمبر ٢٠١١

[13] طارق البشري، نحو تيار أساسي، ص ٣٤

[14] طارق البشري، يوليو والديمقراطية، ص ١٧

[15] طارق البشري، مشكلتان وقراءة فيهما، المعهد العالمي للفكر الإسلامي

[16] طارق البشري، يوليو والديمقراطية، ص ١٧

[17] طارق البشري، نحو تيار أساسي، ص ١٣

[18] طارق البشري، نحو تيار أساسي، ص ٣٦

[19] طارق البشري، يوليو والديمقراطية، ص ١٧

[20] طارق البشري، في الجدل حول المدنية والدينية

[21] طارق البشري، المسلمون والأقباط، ٥

[22] طارق البشري، الحركة السياسية، ص ٤٥-٤٦

[23] طارق البشري، الوضع القانوني بين الشريعة والقانون الوضعي، دار الشروق، ص ١٩-٢٠

[24] طارق البشري، ماهية المعاصرة، دار الشروق، ص ٨

[25] P. Chatterjee, Nationalist Thought and the Colonial World: A Derivative Discourse (London: Zed Books, 1986), pp. 50-51.

[26] طارق البشري، الحركة السياسية في مصر، ص ٤٤

[27] طارق البشري، الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر، دار الشروق، ص ٤٤-٤٥

[28] طارق البشري، الوضع القانوني بين الشريعة والقانون الوضعي، دار الشروق، ٥-٦

[29] طارق البشري، الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر، ٣٤

[30] يرى البشري الواقع المعيش أقوى أثرا من الأفكار المجردة، فالأفكار تبقى "كمواد التحضير في المعامل نقية صافية، ولكنها معزولة نوعا ما في تركيبها المنطقية وصفائها المثالي. أما الفكر المعيش في اختلاطه وتداخله، فيغبر عن نفسه من خلال السلوك والعلاقات وتكوين المؤسسات والتصدي للمشكلات، هذا ما شغفني التنقيب عنه والتقاطه، لبيان الجامعة السياسية من حيث كونها حركة، لا من حيث كونها صياغات فكرية." انظر طارق البشري، المسلمون والأقباط، ٧

[31] طارق البشري، الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر، ٤٩-٥٠

[32] طارق البشري، مصر بين العصيان والتفكك، دار الشروق، ٧-١١

[33] طارق البشري، نحو تيار أساسي، ٢٧

[34] طارق البشري، نحو تيار أساسي، ٢٥-٢٦

[35] طارق البشري، مصر بين العصيان والتفكك، ص ٣٧

[36] طارق البشري، مصر بين العصيان والتفكك، ص ٦٨-٧٣

[37] طارق البشري، مصر بين العصيان والتفكك، ٧٦

[38] طارق البشري، مصر بين العصيان والتفكك، ٢١

[39] طارق البشري، مصر بين العصيان والتفكك، ٧٦

[40] طارق البشري، مصر بين العصيان والتفكك، ٦١

[41] طارق البشري، مقدمة كتاب الطريق إلى قصر العروبة، لمحمد خير الدين، ٢٠١٠، منقول في طارق البشري، الدين والدولة في الوطن العربي، جريدة الشروق، ٣١ أكتوبر ٢٠١٢

[42] طارق البشري، يوليو والديمقراطية، ١٣

[43] طارق البشري، مصر بين العصيان والتفكك، ص ٢٦

[44] طارق البشري، الدين والدولة في الوطن العربي، جريدة الشروق، ٣١ أكتوبر ٢٠١٢

[45] طارق البشري، الخائفون من الديمقراطية، جريدة الشروق، ١٧ مارس ٢٠١١

[46] طارق البشري، حالة مصر بعد الثورة، ١ نوفمبر ٢٠١٢

[47] طارق البشري، في الجدل حول المدنية والدينية، ٧ نوفمبر ٢٠١١

[48] طارق البشري، في الجدل حول المدنية والدينية، ٧ نوفمبر ٢٠١١

[49] طارق البشري، في الجدل حول المدنية والدينية، ٧ نوفمبر ٢٠١١

[50] طارق البشري، حالة مصر بعد الثورة، ١ نوفمبر ٢٠١٢

[51] طارق البشري، نثق في العسكري ولكن، جريدة الشروق، ٨ يناير ٢٠١٢

[52] طارق البشري، وجهة نظري في قراري المحكمة الدستورية بشأن الانتخابات، ٢ يونيو ٢٠١٣

[53] طارق البشري، نثق في العسكري ولكن، ٨ يناير ٢٠١٢

[54] طارق البشري، وجهة نظري في قراري المحكمة الدستورية بشأن الانتخابات، ٢ يونيو ٢٠١٣

[55] طارق البشري، وجهة نظري في قراري المحكمة الدستورية بشأن الانتخابات، ٢ يونيو ٢٠١٣

[56] طارق البشري، وجهة نظري في قراري المحكمة الدستورية بشأن الانتخابات، ٢ يونيو ٢٠١٣

[57] طارق البشري، عن مشروع الدستور أتحدث، جريدة الشروق، ٦ ديسمبر ٢٠١٢

[58] طارق البشري، الدين والدولة في الوطن العربي، ٣١ أكتوبر ٢٠١٢

[59] طارق البشري، أخطاء الإخوان في مائة يوم من عمر مجلس الشعب، جريدة الشروق، ١١ مايو ٢٠١٢

[60] طارق البشري، حل مجلس الشعب أثبت أن السلطة المصرية لا تحتمل مجلسا شرعيا، ٢٧ يونيو ٢٠١٢

[61] طارق البشري، الدين والدولة في الوطن العربي، ٣١ أكتوبر ٢٠١٢

[62] طارق البشري، عن مشروع الدستور أتحدث، ٥ ديسمبر ٢٠١٢

[63] طارق البشري، حل مجلس الشعب أثبت أن السلطة المصرية لا تحتمل مجلسا شرعيا، ٢٧ يونيو ٢٠١٢

[64] طارق البشري، المجلس العسكري لا يملك سلطة إصدار إعلان دستوري مكمل، جريدة الشروق، ٢١ مايو ٢٠١٢

[65] طارق البشري، أخطاء الإخوان في مائة يوم من عمر مجلس الشعب، ١١ مايو ٢٠١٢

[66] طارق البشري، حالة مصر بعد الثورة، ١ نوفمبر ٢٠١٢

[67] طارق البشري، حالة مصر بعد الثورة، ١ نوفمبر ٢٠١٢

[68] طارق البشري، الدين والدولة في الوطن العربي، ٣١ أكتوبر ٢٠١٢

[69] طارق البشري، وجهة نظري في قراري المحكمة الدستورية بشأن الانتخابات، ٢ يونيو ٢٠١٣

[70] طارق البشري، حل مجلس الشعب أثبت أن السلطة المصرية لا تحتمل مجلسا شرعيا، ٢٧ يونيو ٢٠١٢

[71] طارق البشري، الدين والدولة في الوطن العربي، ٣١ أكتوبر ٢٠١٢

[72] طارق البشري، وجهة نظري في قراري المحكمة الدستورية بشأن الانتخابات، ٢ يونيو ٢٠١٣

[73] طارق البشري، حل مجلس الشعب أثبت أن السلطة المصرية لا تحتمل مجلسا شرعيا، ٢٧ يونيو ٢٠١٢

[74] طارق البشري، ما معنى الانقلاب العسكري، ٢٢ يولية ٢٠١٣

[75] طارق البشري، قانون منع المظاهرات ودلالاته الدستورية في النظام السياسي لمصر، ٥ ديسبمر ٢٠١٣

[76] طارق البشري، عن القضاء والسياسة، ٢٠ سبتمبر ٢٠١٣

[77] طارق البشري، حالة مصر بعد الثورة، ١ نوفمبر ٢٠١٢

[78] طارق البشري، يوليو والديمقراطية، ١٨

[79] طارق البشري، يوليو والديمقراطية، ٨