التطوير القضائي للدستور - دور القاضي الدستوري المصري في تطوير الدستور
* الكاتب: المستشار د. عبدالعزيز محمد سالمان، نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا
** تنشر "منشورات قانونية" هذه الورقة بإذن خاص من الكاتب
مقدمة
تنحسر الدراسات الدستورية عن "الدستور" في ذاته كوثيقة تنظم فلسفة الدولة، والسلطات داخلها، والعلاقة بينهما، باعتباره أعلى القواعد القانونية داخل الدولة، وإن كان ثمة فيض من الدراسات حول ما يتضمنه الدستور من موضوعات مختلفة، كالدراسات حول الحقوق والحريات، في ترتيبها أو في علاقتها بالبرلمان.... إلخ.
والدستور كوثيقة ينبغي أن تحظي بالدراسات المعمقة، والتساؤلات التي يمكن أن تثار حول طبيعته، والنظرة إليه، وكيف تفسر جهة الرقابة الدستورية النص الدستوري حال تحريها لدستورية نص في قانون أو لائحة، وكيف تتوصل جهة الرقابة إلى التفسير الصحيح لنصوص الدستور في مجملها، وفى نص محدد بذاته، وكيف تستخلص نية المشرع الدستوري، وما هو الوقت الذي تقف فيه على هذه النية، هل هو تاريخ وضع الوثيقة، أم تاريخ إعمالها و تطبيقها، وما هو الحال حين يستطيل الزمن ويتباعد بين تاريخ وضع النص وتطبيقه، وتتسع بالتالي الهوة بين نصوص الدستور وما يجرى في الواقع، وهل يتسع دور القاضي الدستوري لينظر إلى نصوص الدستور، وبالأدق إلى أحكامه نظرة تطويرية، هل من دور له فى تطوير أحكام الوثيقة الدستورية، لتواكب ما يمر به المجتمع من تطورات دون تعديل نصوصه خاصة مع السرعة الجنونية التي تلحق بعض الموضوعات التي تغدو منبتة الصلة مع نصـــــــــوص الدستــــــــــور، والتي من المفترض أن يتواكب معها المشرع الدستوري بالتعديلات المناسبة، والتي قد لا تكون الدولة مهيأة سياسيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا لها، مع ما يصاحب ذلك من تهيأة للشعب، وإيجاد البدائل الرسمية، التي تلائم العصر، وتطوراته وتقنياته...إلخ.
والكلام حول تطوير الدستور، كلام شديد الأهمية إذ أن الدستور الذي يحكم تصرفات السلطات العامة داخل الدولة وخارجها، ويحدد مشروعيتها، ومصادر هذه المشروعية، بل هو الذي يحدد السلطات ذاتها، والعلاقة بينها، والأساس الذي يحكم هذه العلاقة، وهل هو فصل للسلطات، أم جمعها في سلطة واحدة، وإذا كان فصلاً فعلى أي أساس، هل من قبيل التعاون، وتبادل الرقابة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، مع استقلال تام للسلطة القضائية، ورقابتها على أعمال السلطتين أم هو فصل جامد، وآثار ذلك، والدستور أيضًا الذي يحتوى على فلسفة الدولة في جميع مجالاتها .
وإذا كانت حماية حقوق الإنسان وحرياته هي محور الاهتمام الدائم للعالم أجمع، وسيظل محور لاهتمام الدول والجماعات والأفراد مستقبلاً، فإن الدستور هو الذي يقننها، ويبين ماهيتها، وكيفية حمايتها.
ومن ثم تأتى أهمية البحث حول " الدستور" والمفارقة أو المباعدة الكبيرة التي تحدث بين نصوصه الثابتة والواقع المتغير في المجالات المختلفة.
ونتناول – في هذا المقال – بعض الأفكار حول تطوير الدستور دون تعديله، وماهية هذا التطوير، وعلى أي أساس يستند، وما هو دور القاضي الدستوري في هذا التطوير، وذلك من خلال عدة نقاط، كل مبحث على حدة:
المبحث الأول: ماهية الدستور وسماته.
المبحث الثاني: اختلاف النصوص الدستورية عن تطبيقاتها في الحياة العملية.
المبحث الثالث: كيفيــــــــــة الموائمــــــــــــة بين المجــــــــــــال القانوني للدستور، وبين المجال السياسي له.
المبحث الرابع: دور القاضي الدستوري في تطوير الدستور دون تعديله.
المبحث الخامس: دور المحكمة الدستورية العليا في تطوير الدستور.
المبحث الأول
ماهيــــــــــة الدستــــــــــــــــور وسماتـــــــــــــــــه
الدستور في أبسط تعريف له: هو مجموعة القواعد القانونية التي تبين شكل الدولة، والسلطات داخلها، وولاية كل سلطة، والعلاقة بين هذه السلطات، وبين الحقوق والحريات الفردية.
وأول سمــــــــــات الدستـــــــــــــــور ، وخصائصــــــــــــــــــــه، هــــــــــــــــــــى :
1- السمــــــــــــو على جميـــــــع القواعـــــــد القانونيـــــــة داخـــــــل الدولـــــــة:(1)
يرتكن سمو الدستور من ناحية إلى طبيعته وطبيعة القواعد الدستورية أو موضوعها، كما يرتكن إلى الشكــــــــــــــــل التي تتبلور فيه هذه القواعد، أي أن هناك سموًا موضوعيًا، وسموًا شكليًا .
أولاً: السمــــــــــــــــو الموضوعـــــــــــــــى للدستـــــــور
يكمن السمو الموضوعي للدستور في طبيعته ومضمون القواعد الدستورية التي يتضمنها، وفى طبيعته الموضوعات التي ينظمها ، فالدستور يعد الأساس الأول الذى يقوم عليه النظام القانوني في الدولة وعن طريقه تتحدد الأيديولوجية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقائدية في الدولة، ومن ثم فإن جميع القواعد القانونية يجب أن تنسجم مع الدستور وأن تتوافق معه ولا تخالفه ، فالقواعد التي تحدد السلطات العامة في الدولة والعلاقة بينها واختصاص كل سلطة وتحديد علاقة الأفراد بالسلطة، وما ينشأ عن ذلك من حقوق وحريات، يجب أن يكون لها الصدارة والعلو على بقية القواعد الأخرى، ويجب على القواعد الأخرى احترامها والالتزام بها ، وهذا أمر بديهــــــــــــي، ويتبدى هذا السمو الموضوعي في مظهرين هامين (1).
أولاً : أن الدستور إذ يحدد فكرة القانون فى الدولة ، فهو بذلك يحدد – كما سلف القول – الفلسفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للدولة، هذا التحديد يعتبر الإطار العام الذي تسير عليه الدولة حكامًا ومحكومين، فهو ملـــــــزم لهم، لا يستطيعون الخروج عليه أو الفكاك منه، ولا ينبغي أن يفهم من ذلك أن الدستور يقضى على وجهات النظر أو الفلسفات الأخرى الموجــودة في الدولة، لكنه وبخاصة - في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية – يعبر عن وجهة النظر الرسمية، ويسمح لوجهات النظر الأخرى بالوجود في الجانب المعـــــــــارض، وذلك على درجات متفاوتة تختلف باختلاف الدول والأنظمة السياسية .
ثانياً: أن الدستور يحدد الأشخاص الذين يكون لهم الحق في ممارسة السلطة في الدولة، وهو في هذا الصدد لا يحدد أشخاصًا بذواتهم بل بشروط معينة، وأوصاف تنطبـــــــــــــــــق عليهـم، وهـم في ذلك لا يمارسون حقاً ذاتياً، بل اختصاصًا وظيفيًا محدداً، مع ما يترتب على ذلك من نتائج .
- النتائــــــــــــــج المترتبــــــــــــــة علــــــــــــــى سمــــــــــــــو الدستــــــــــــــور مــــــــــــــن الناحيــــــــــــــة الموضوعيــــــــــــــة :
يؤدى هذا السمو الموضوعي لقواعد الدستور إلى عدة نتائج من أهمها :
1- يؤدى إلى تدعيم وتأكيد مبدأ المشروعية ، واتساع نطاقه، بحيث يشمل إلى جانب احترام القواعد التشريعية الصادرة عن السلطة التشريعية، احترام القواعد الدستورية، فيصبح التصرف المخالف للدستور تصرفاً غير شرعي، حتى ولو صدر عن سلطات الدولة، فلا تملك هذه السلطات أن تخرج على أحكام الدستور، لأنها إن فعلت ذلك فقدت شرعيتها فى التصرف، وتجردت أفعالها من قيمتها القانونية(1).
2- الدستور، هو القانون الأساسي في الدولة، يحدد السلطات واختصاصاتها، فهذه السلطات تمارس الحكم ليس باعتباره حقاً ذاتياً، بل اختصاصاً محددًا ومبيناً له شروطه وحدوده ومداه .
3- هذه السلطات لابد أن تمارس هذا الاختصاص المخول لها ، ولا يمكنها تفويضه ، بل لا يمكنها التعديل فى شروط هذا التفويض، وذلك مالم ينص الدستور على ذلك صراحة(1).
غير أنه يلاحظ أن هذه النتائج تصبح هباءً منثوراً إذا لم تنظم رقابة جدية على دستورية القوانين . رقابة شاملة يتسع نطاقها لمراقبة المشرع فى كيفية تحديده لمضامين الحقوق بحيث تستطيع إلغاء التصرف المخالف للدستور إذا كان قاصرًا عن أن يقدم حماية للحقوق تكون محققة للضمانات الدستورية للحق أو الحرية.
ولا يمكن تنظيم هذه الرقابة ما لم يتحقق للدستور السمو من الناحية الشكلية ، ولايعدو السمو الموضوعى أن يكون له سوى أثر سياسى محض ، يتمثل فى رد الفعل السياسى والاجتماعى الذى يحدثه فى المجتمع.
ثانيًا :السمـــــــــو الشكلـــــى للدستـــــــــــور
إذا كان السمو الموضوعى لا يحقق إلا علوًا ذا طابع سياسى فقط، فإن العلو الشكلى يحقق السمو القانوني ذا الطابع الملزم، والدستور الذى يتحقق له العلو الشكلى هو الدستور الجامد دون سواه، والدستور الجامد هو ذلك الذى يتطلب فى تعديله إجراءات شديدة ومعقدة، وهذا الجمود هو الذى يجعل للقاعدة الدستورية مكانة أسمى من القواعد القانونية العادية ، أما الدساتير المرنة فلا يتحقق لها هذا العلو الشكلى، بل إن التفرقة بينهـــــــــــــــــــا وبين القوانين العاديـــــــــــــة لا تكون واضحة ، ولا يكون لها أثر عملى واضح.
ويجب أن نشير إلى أنه إذا كان السمو الموضوعى يتحقق بالنسبة لجميع الدساتير المكتوبة وغير المكتوبة على السواء، الجامدة والمرنة ، فإن السمو الشكلى لا يتحقق إلا حيث يكون الدستور مكتوبًا وجامدًا فهو مرتبط بالشكل والإجراءات (1).
ويثـــــــــار بصـــــــــدد الحديــــــــــث عـــــــــن العلــــــــــــو الشكلـــــــــــى مسألتـــــــــــان هامتـــــــــــــــان :
الأولى : التفرقة بين القوانين الدستورية والقوانين العادية .
الثانية: الدستور الجامد والدستور المرن :
الدستور الجامد : هو ذلك الذى يوضع ويعدل بطريقة تختلف عن الطريقة التى يوضع بها التشريع العادى، وفى شكل غير الشكل الذى يوضع فيه، وبواسطة هيئة مغايرة للهيئة التى تقوم بوضع التشريع العادى .
ويجب أن ننبه إلى أن الدستور المكتوب ليس مرادفًا للدستور الجامد، ذلك لأن التدوين وحده لا يكفى لإقرار جمود الدستور، وإبعاده عن يد المشرع العادى ، فقد قرر الفقه فى أكثر من مناسبة حق البرلمان الإنجليزي فى تعديل العهد الأعظم وغيره من الوثائق الدستورية المكتوبة بنفس الإجراءات المقررة لتعديل القوانين العادية، وبالمثل فقد كان الدستور الإيطالي الصادر فى 1848 دستورًا مكتوبًا، ولكنه كان دستورًا مرنًا، حتى أن التعديلات التي أجرتها الحركة الفاشيـة فى إيطاليـا 1938، كانت كلها بقوانين عادية (1).
على أن الدساتير الجامدة، لا تكون على درجة واحدة من الجمود ، فيوجد ما يسمى الجمود المطلق ، كما يوجد الجمود النسبى :
الجمــــــــــــــــــــــــــــود المطلــــــــــــــــــــــــق : الدستور الجامد جمودًا مطلقًا، هو ذلك الذى ينص فى صلبه على عدم إمكانية تعديله خلال مدة معينة، وهذا الجمود يكون رهنًا بإرادة واضعى الدستور، وما أرادوه للنظام السياسى من ثبات واستقرار، غير أن هذا الجمود المطلق مستحيل عملاً، ذلك أنه مهما قيل بضرورة استقرار النظام الدستورى وثباته، فإنه لايمكن أن يكون استقرار مطلقًا يصل بالحياة السياسية إلى حد الجمود الكامل، ومن ثم فمهما حاول واضعو الدساتير تجميدها، فإنهم لن يفلحوا فى منع استمرار تطور هذه الدساتير، بل فى وجود هذا التطور، حتى يتسع الإطار القانونى للنظام السياسى لكل ما يطرأ على الحياة السياسية والاجتماعية من تغير طبقًا لقانون التطور المستمر فى حياة المجتمع، ولهذا يؤكد جمهور الفقه الدستورى، أن الجمود المطلق مستحيل وغير معقول سواء من الناحية السياسية أو القانونية (1) والجمود المطلق ينتهى إلى تعديله عن طريق الشعب بالثورة.
الجمـــــــــــود النسبـــــــــــى : الدستور يكون جامداً جموداً نسبيًا إذا نص فى صلبه على عدم تعديل نص أو أكثر خلال مدة معينة، كما يتطلب فى هذا التعديل إجراءات أشد من القوانين العادية.
وهــــــــــــــذه الإجــــــــــــــــراءات قـــــــــــد تتنــــــــــــــوع تنوعاً كبيـــــــــــــــراً :
فقد يشترط أن يتم التعديل بواسطة جمعية وطنية تأسيسية تنتخب خصيصاً لتعديل الدستور .
كما قد يكون التعديل بواسطة مؤتمـــــــر مــــــــــــــن مجلــــــــــــــس البرلمـان، مع اشتراط أغلبية خاصة(2).
كما قد يكون التعديل بواسطة أغلبية مشددة من أعضاء البرلمان، والسمة الغالبة في الدساتير المكتوبة أن تكون جامدة جمودًا نسبياً، أي يتطلب في تعديلها إجراءات أشد من الإجراءات المتطلبة في التشريعات العادية .
ويجب أن نشير أخيراً إلى أن هذا السمـــــــــــــو ســـــــــــــــــــواء الموضوعـــــــــــي أو الشكلي يكون عديم القيمة إذا لم ينظم جزاء قانونياً على الخروج عليه، فلابد لكي يتحقق هذا العلو للدستور أن ينظم جزاء قانونياً على خروج المشرع العادي على أحكام الدستور، وهو ما يعرف " برقابة دستورية القوانين" .
وبدون هذه الرقابة الفعالة تصبح أحكام الدستور معرضة للانتهاك والمخالفة بل والتعديل بدون جزاء، فالرقابة على دستورية القوانين ضمان من أهم ضمانات نفاذ القاعدة الدستورية، وتعتبر الضمان الأكيد والفعال لمبدأ علو الدستور .
- قضــــــــاء المحكمــــــــــة الدستوريـــــــــة العليـــــــــا حــــــــــول سمــــــــو الدستــــــــــــور .
استقر قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن" الرقابة على الشرعية الدستورية تفترض دستوراً مدوناً جامداً تتصدر أحكامه القواعد القانونية الأدنى مرتبة منها وتعلوها، ذلك أن الدستور يمثل أصلاً- وكلما كان مواكباً لتطور النظم الديمقراطية، هادفاً إلى حماية الحرية الفردية ودعم انطلاقها إلي آفاق مفتوحة تكون بذاتها عاصماً من جموح السلطة أو انحرافها - ضمانة رئيسية لإنفاذ الإرادة الشعبية فى توجهها نحو مثلها الأعلى وبوجه خاص فى مجال إرسائها نظاماً للحكم لايقوم على هيمنة السلطة وانفرادها، بل يعمل على توزيعها فى إطار ديموقراطى بين الأفرع المختلفة التى تباشرها لضمان توازنها وتبادل الرقابة فيما بينها، وعلى أن يكون بعناصره مستجيباً للتطور، ملتزماً إرادة الجماهير، مقرراً مسئولية القائمين بالعمل العام أمامها، مبلوراً لطاقاتها وملكاتها، مقيداً بما يحول دون اقتحام الحدود المنطقية لحقوقها الثابتة ولحرياتها الأصيلة، رادعاً بالجزاء كل إخلال بها أو نكول عنها، وكان الدستور فوق هذا يولي الاعتبار الأول لمصالح الجماعة بما يصون مقوماتها، ويكفل إنماء قيمها الاجتماعية والخلقية، بالغاً من خلال ضمانها ما يكون فى تقديره محققاً للتكافل بين أفرادها، نابذاً انغلاقها، كافلاً الرعاية للحقائق العلمية، عاملاً علي الارتقاء بالفنون علي تباين ألوانها، مقيماً حرية الإبداع علي دعائمها، وكان الدستور بالحقوق التي يقررها، والقيـــــــــــــــــــود التي يفرضهــــــــــــــــــــــــــا - وأياً كان مداهـــــا أو نطاقها- لا يعمـــــــــــــل فـــــى فراغ، ولا ينتظـــــــــــــــــــــم مجرد قواعد آمرة لا تبديل فيها إلا من خلال تعديلها وفقاً للأوضاع التي ينص عليها، إذ هو وثيقة تقدمية نابضة بالحياة، تعمل من أجل تطوير مظاهرها في بيئة بذاتها متخذة من الخضوع للقانون إطاراً لها، ولا مناص من الرجوع إليها تغليباً لأحكامها التى تتسنـم القواعـد الآمـرة، ولأن الشرعية الدستورية فى نطاقها هى التي تكفل ارتكاز السلطة علي الإرادة العامة، وتقوم اعوجاجها،ومنها تستمد السلطة فعاليتها، بما يعزز الأسس التي تنهض بها الجماعة ويرعى تقدمها.
متى كان ما تقدم، وكان من المقرر أنه سواء كان الدستور قد بلغ غاية الآمال المعقودة عليه فى مجال تنظيم العلاقة بين الدولة ومواطنيها، أم كان قد أغفل بعض جوانبها أو تجنبها، فإن الدستور يظل دائماً فوق كل هامة، معتلياً القمة من مدارج التنظيم القانونى باعتبار أن حدوده قيد علي كل قاعدة تدنوه بما يحول دون خروجها عليها، وهو ما عقد للدستور السيادة كحقيقة مستقر أمرها فى الوجدان والضمير الجمعى، وهى بعد حقيقة مستعصية على الجدل رددتها ديباجة دستور جمهورية مصر العربية بإعلانها انعقاد عزم الإرادة الشعبية التي منحته لنفسها علي الدفاع عنه وحمايته وضمان احترامه، وليس لأحد بالتالى أن يكون لأحكام الدستور عصياً، ولا أن يعرض عنها إنكاراً لها.(1).
2- الدستــــــــــور نصوصــــــــــــــه متكاملـــــــــــة مترابطــــــــــة تعمــــــــــل فــــــــــي إطــــــــــار وحــــــــــدة عضويــــــــــة :
الأصل في النصــــــــــوص الدستوريــــــــــة أنها تؤخذ باعتبارها متكاملة، وأن المعاني التي تتولد عنها يتعين أن تكون مترابطة بما يرد عنها التناقض أو التنافر.
وتستمد المحكمة الدستورية العليا من الدستور مباشرة ولايتها في مجال الرقابة الدستورية ومرجعها إلى أحكامه، وهو القانون الأعلى فيما يصدر عنها من قضاء في المسائل الدستورية التي تطرح عليها، وكلمتها في شأن دلالة النصوص التي يضمها الدستور بين دفتيه، هي القول الفصل وضوابطها فى التأصيل ومناهجها في التفسير هي مدخلها إلى معايير منضبطة تحقق لأحكام الدستور وحدتها العضوية، وتكفــــــــــل الانحيــــــــــــاز لقيم الجماعة فى مختلف مراحل تطورها(2).
والنصوص الدستورية لا تتعارض أو تتهادم، أو تتنافر فيما بينها، ولكنها تتكامل فى إطار الوحدة العضوية التي تنتظمها من خلال التوفيق بين مجموع أحكامها وربطها بالقيم العليا التي تؤمن بها الجماعة في مراحل تطورها المختلفة.
ويتعين دوماً أن يعتد بهذه النصـــــــــــــــــــوص بوصفها متآلفة فيما بينها، لا تتماحى أو تتأكل بل تتجانس معانيهــــــــــا وتتضافـــــــــــــــــــــــر توجهاتها، ولا محل بالتالى لقالة إلغاء بعضها البعض بقدر تصادمها، ذلك أن إنفاذ الوثيقة الدستورية وفرض أحكامها على المخاطبين بها يفترض العمل بها في مجموعها وشروط ذلك اتساقها وترابطها والنظر إليها باعتبار أن لكل نص منها مضموناً ذاتياً لا ينعزل به عن غيره من النصوص أو ينافيها أو يسقطها، بل يقوم إلى جوارها متساندًا معها مقيدًا بالأغراض النهائية والمقاصد الكلية التى تجمعها ([1]).
والأصل في النصوص الدستورية أنها تؤخذ باعتبارهــــــــــــــا متكاملة، وأن المعاني تتولد عنها يتعين أن يكون مترابطة فيما بينها، بما يرد عنها التنافر أو التعارض هذا بالإضافة إلى أن النصوص إنما تعمل في إطار وحدة عضوية تجعل من أحكامها نسيجاً متآلفًا متماسكًا بما مؤداه: أن يكون لكل نص منها مضمون محدد يستقل به عن غيره من النصوص استقلالاً يعزلها عن بعضها ، وإنما يقيم منها في مجموعها ذلك البنيان الذي يعكس ما ارتأته الإرادة الشعبية أقوم لدعم مصالحها في المجالات السياسيـــــــــة والاقتصاديـــــــــــــــــــــــة والاجتماعيـة، ولا يجوز بالتالي أن تفسر النصوص الدستورية بما يبتعد بها عن الغاية النهائية المقصودة منها، ولا أن ينظر إليها بوصفها هائمة في الفراغ، أو باعتبارها قيما مثالية منفصلة عن محيطها الاجتماعي، وإنما يتعين دومًا أن تحمل مقاصدها بمراعاة أن الدستــــــــــــــور وثيقة تقدمية لا ترد مفاهيمها إلى حقبة ماضية وإنما تمثل القواعد التي يقوم عليها والتي صاغتها الإرادة الشعبية انطلاقة إلى تغيير لا يصد عن التطور آفاقه الرحبة.
3- القواعــــــــــــد الدستوريــــــــــــة جميعهـــــــــــــا ذات مرتبــــــــــة واحــــــــــدة:
ليس هناك نص أعلى من نص مرتبة، ولا هناك نص أهم وأسمى من النصوص الأخرى، لا فرق بين نص وآخر، ولا بين حق دستوري وآخر، سواء كان هذا النص وارداً في الدستور ذاته أو في ديباجته طالما حوت هذه الديباجة قواعد من طبيعة دستورية أما إذا لم يمكن استخلاص قواعد قانونية محددة، فإن هذه الأجزاء من المقدمة تكون منعدمة القيمة ولا تزيد هذه العبارات الموجودة أو الألفاظ الواردة عن أن تكون سرداً لحقائق تاريخية أو لمراحل من نضال الجماعة أو لطور من أطوارها كما هو الحال في معظم أجزاء مقدمة دستور 2014.
وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا على أن " الأصل في الحقوق التي كفلها الدستور أنها لا تتمايز فيما بينها، ولا ينتظمها تدرج هرمى يجعل بعضها أقل شأناً من غيرها أو في مرتبة أدنى منها، بل تتكافأ في أن لكل منها مجالاً حيوياً لا يجوز اقتحامه بالقيود التي تفرضها النصوص التشريعية. ويتحدد هذا المجال بالنسبة إلى الحقوق التي نص عليها الدستور في صلبه، على ضوء طبيعة كل حق منها، وبمراعاة الأغراض النهائية التي قصد الدستور إلى تحقيقها من وراء إقراره، وفى اطار الرابطة الحتمية التي تقوم بين هذا الحق وغيره من الحقوق التي كفلهــــــــــــــــــــــــا الدستور باعتباره مدخلاً إليها أو لازماً لصونها. (1)
- موقــــــــــــــف الدستـــــــــــور مـــــــن القواعـــــــد القانونيـــــــة فـــــــوق الوطنيـــــــة:
ظهرت فى بعض النظم ما تسمى بالقواعد القانونية فوق الوطنية التي يتقيد بها المشرع الوطني كما هو الحال في قانون الجماعات الأوروبية على أثر إنشاء الاتحاد الأوروبي بمقتضى الاتفاقية الموقعة في 2 فبراير سنة 1992.
وإنشاء الاتحاد الأوروبي باتفاقية أمستردام في 2 أكتوبر 1997. وهذه القواعد لا يمكنها تنحية الدستور ولا تعلو عليه أبداً، ولا يكون لها قيمة إلا من خلال إقرار الدستور الوطنى لها، وبالقيمة التي يراها. وفى كل الأحوال لا يمكن ان تعلو عليه.
فإذا كانت هذه القواعد منصوصاً عليها في اتفاقية دولية وجب أن تتفق هذه القواعد مع نصوص الدستور.
فلا يمكن أن تنال قواعد القانون الدولي مرتبة أعلى من نصوص الدستور. بل لا تنال هذه القواعد أيه قيمة دستورية تسمو على قواعد التشريع ما لم يعتنقها المشرع الدستوري نفسه ابتداء، أو ما لم ينص الدستور على ذلك صراحة كما ورد فى بعض الدساتير (مثال ذلك الدستور الألماني).
وعلى ذلك أن صحة قواعد القانون الدولي تتوقف على اعتراف القانون الداخلي بها وخاصة الاعتراف الدستوري الوطني وذلك بناء على سيادة القانون الوطني. وعلى ذلك فإن الالتزام الدولي يتوقف على موافقة الدولة، ويعتبر تصديق الدولة على أي اتفاقية دولية بما يخالف الدستور عملاً غير دستوري(1).
الخلاصــــــــــة أنه لا محــــل للقــــــول اطلاقاً بوجـــــــــــود قواعـــــــــــد قانونيـــــــــــة تعلـــــــــــو علـــــــــــى دستـــــــــــور الدولـــــــــــة.
المبحـــــــــث الثانــــــــــى
اختــــــــــــــــــــــــــلاف النصــــــــــــــــــــــــــــــوص الدستوريـــــــــــــــــــــــــة
عـــــــــــــن تطبيقاتهـــــــــــــا فـــــــــــــي الحيـــــــــــــاة العمليـــــــــــــة
يرصد الباحثون منذ القدم تبايناً وتباعداً بين النص الدستوري الثابت، وبين واقع المجتمع المتغير و يزداد هذا التباين وتتسع الهوة مع الزيادة في قدم الدساتير، فتظهـــــــــــــر تصرفــــــــــــــــــــــــات للسلطات العامة لا علاقة لها بنصوص الدستور. فالدساتير حين توضع تكون تقنيناً لإرادة الشعب وقتها، وهذه الإرادة لا تظل ثابتة بثبوت نصوص الدساتير الجامدة، وإنما تتغير بتطور المجتمعات، والظروف التي تلابسها، بما كان ينبغي أن تتعدل معها الدساتير، والتعديلات المتكررة للدساتير، ليست من سمات الدساتير الجامدة التي لها إجراءات معقدة قلما تتوفر في المدى المناسب مما يحدث هذه الفجوة بين النص والواقع هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فقد يحدث أن تتخلى الجماعة " الشعب" عن فلسفة كانت تعتنقها أو تتجه إلى فلسفة جديدة تراها هي المناسبة للواقع الجديد كما هو الحال مثلاً عند هجر المبادئ الاشتراكية، والاتجاه إلى الاقتصاد الحر، ونصوص الدستور جامدة كما هي وتتحدث عن الأسس الاشتراكية، والأفكار الاشتراكية، وحماية الاشتراكية وإجبار جهة الرقابة على أن تحكم وفقاً لها.
ولقد كانت المحكمة الدستورية العليا رائدة في تبنى فكرة تطوير الدستور بما يتماشى مع الفكر الجديد والفلسفة الجديدة التي أعتنقها المجتمع على نحو ما سنرى بعد ذلك.
- والأساس في الفكرة التي نطرحها هي أن التشريعات (وفى مقدمتها التشريع الدستورى) ومؤسسات الدولة وسلطاتها يجب أن تسير جنباً إلى جنب مع تقدم العقل البشرى، فحيث يصبح العقل البشرى أكثر تطوراً، وأكثر استنارة مع الاكتشافات المذهلة والحقائق الجديدة التي يتم الكشف عنها كل يوم تقريباً، يلزم أن تواكب مؤسسات الدولة وسلطاتها هذا التطور العقلى والعلمى، فالمجتمع المتحضر يجب ألا يرغم على البقاء في أي وقت تحت نظام وقوانين أسلافهم، فبهذه العبارات عبر "توماس جيفرسورن" عن فكرته فى حياة الدساتير والمؤسسات الدستورية حيث يرى مع جانب من الفقه الفرنسي أن "الدستور هو عمل حي، ولكي يبقى على تواصل ومواكبة للمجتمع فإنه يحتاج إلى نقاش دائم حوله، وهذا النقاش يجب أن يدور حول مفهوم الدستور، وأبعاده الهادفة لصون حقوق الإنسان وحرياته، يجب أن يخرق غلاف النصوص القانونية القديمة التي وضعت قبل سنين طويلة، والتي أصبحت بفعل مرور الوقت حروفاً ميتة، ليجعل منها قواعد متحركة تستطيع أن تحمى الإنسان وحقوقه وحرياته بصورة تحاكى هذا التطور الهائل(1).
وهذه الظاهرة -المباعدة والمفارقة بين نصوص الدستور، وما يحدث في الواقع العملى- رصدها الباحثون في دول كثيرة لا فرق في ذلك بين الدول المتقدمة، وبين الدول النامية ومنذ ما يقارب قرناً من الزمان على اختلاف في أسبابها -فقد ذهب جانب من الفقه إلى أن ثمة فارقاً هائلاً بين الدستور الأمريكي كما وضعه منذ حين واضعوه، وذلك الدستور كما طبقه فيما بعد مطبقوه، ويرجع ذلك الفارق الهائل إلى أنه رغم ما كان بعد صدور الدستور من حدوث تغيير كبير فى ظروف البيئة الاجتماعية، فإن ما أدخل من تعديلات على الدستور كانت ذات أهمية ثانوية، فلم تكن ذات أثر على الخطوط العريضة للدستور وذلك لأن الأمريكيين يحيطون دستورهم بهالة من التقديس"(1).
ولعل خير مثال لهذه الظاهرة (ظاهرة اختلاف النصوص الدستورية عن تطبيقاتها فى الحياة العملية) ما نجده فى الولايات المتحدة الأمريكية حيث نجد الدستور قد عملت نصوصه على تحقيق المساواة والتوازن بين الرئيس (رئيس الدولة ورئيس السلطة التنفيذية) وبين السلطة التشريعية (الكونجرس) تطبيقاً لمبدأ الفصل بين السلطات، لكنا نجد في الحياة العملية أن شيئاً من تلك المساواة أو ذلك التوازن لم يحدث إلا فترات قليلة. ففيما قبل الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) كانت الكفة الراجحة في ميزان السلطات هى البرلمان (الكونجرس) لذلك وجدنا رئيساً للجمهورية (وأستاذاً سابقاً للقانون الدستوري فيما قبل فترة تلك الحرب) وهو الرئيس ويلسون يضع كتاباً عن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بعنوان "حكومة الكونجرس" أي حكومة الجمعية النيابية ثم بعد نهاية تلك الحرب عرضت أحداث أزمات وظهرت شخصيات قوية على كرسى رئاسة الجمهورية كان من شأنها أن حولت الكفة الراجحة فى ميزان السلطات إلى الرئيس، ولذلك وصفت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، بالحكومة الرئاسية، وظل الحال كذلك لمدة سنوات عديدة إلى أن منيت الحكومة الأمريكية بالفشل في الحرب الكورية والحرب الفيتنامية وبالفضيحة في قضية ووترجيت الشهيرة في نوفمبر 1973 مما هز سلطة الرئيس وما كان يحيط بمركزه من هالة ومكانة، بحيث لم يعد صحيحاً أن نتحدث عن علو سلطة الرئيس عن البرلمان وبالتالي أصبح غير صحيح – في نظر جانب مـــــــــــــــــــن الفقــــــــــــــــــــــه – أن نصف الحكومة الأمريكية بالحكومة الرئاسية. (1)
وما يقال عن الولايات المتحدة الأمريكية يقال أيضاً عن فرنسا حيث يرى الفقيه "بيردو" أننا إذا نظرنا إلى النظامين الفرنسي والإنجليزي فيما قبل عام 1958 (قبل دستور ديجول في فرنسا) فإننا نجد أنه لا وجه للخلاف بينهما من الناحية الدستورية، ولكننا إذا نظرنا إليهما من الناحية العملية فإننا لا نجد بينهما وجهاً من وجوه التشابه.
ويقول في موضع آخر "أن الدستور الفرنسي الحالي للجمهورية الفرنسية الخامسة (دستور 1958) هو بعيد عن النظام الدستورى الفرنسي الذي جرى تطبيقه فعلاً في الحياة السياسية العملية).(1)
وفى البلاد النامية، نجد أيضاً اختلاف النصوص الدستورية عن تطبيقاتها في الحياة العملية:
ويؤكد على ذلك بعض الفقهاء الفرنسيين الذين عاشوا بتلك البلاد وقاموا بالتدريس في جامعاتها، أو رحلوا إليها وأقاموا بها حيناً وأخذوا يلاحظون عن قرب كيف تطبق في حياتها السياسية نصوص أنظمتها الدستورية.
فيرى الفقيه "لافروف" أننا إذا قصرنا نظرتنا على النصوص الدستورية فإننا نرى أن الهيئات النيابية في أفريقيا تحرز جميع الضمانات التي تكفلها دساتير الديمقراطيات الغربية)، كحرية الهيئة النيابية في وضع نظامها الداخلى وتمتع أعضائها بالحصانة البرلمانية، على أننا إذا نظرنا إلى الواقع فإننا نجد أنه من الأمور التي لا يمكن تصورها أن تحرز الهيئة النيابية استقلالاً في ظل نظام الحزب الواحد أو حيث يعد النواب مدينين بمقاعدهم النيابية إلى اختيار الحزب الواحد لهم وبوجه خاص رئيس الحزب الذى هو في الوقت ذاته رئيس الدولة.
ولا نريد أن نطيل في هذا الأمر أكثر من ذلك. (1)
المبحـــث الثالــــــث
كيفيـــــــــــة الموائمـــــــــــــــة بيـــــــــــــــن
المجــــــــــال القانونـــــــــــي للدستـــــــــــور وبين المجـــــــــــال السياســــــــــــــي
إذا كنا قد أكدنا وجود مسافة كبيرة بين النصوص الدستورية وبين ما يحدث في الواقع فما هو السر وراء ذلك؟
وكيف نستطيع أن نضيق من هذه المسافة أو ما يسمى "بالفجوة" بحيث تتلاشى أو تكاد؟ بحيث يكون المجال القانوني مطابقاً للمجال السياسي للدساتير؟
قبل الإجابة على هذه التساؤلات، لابد أن نقرر أن ثمة مدلولان للدستور: مدلول سياسي، ومدلول قانوني، نعرض لهما في موجز من القول.
1- المدلـــــــــــول السياســـــــي للدستــــــــــــــور:(1)
في لحظة تاريخية محددة يتوافق الشعب على مجموعة من المبادئ السياسية المتعلقة بنظام الحكم يؤمن بها ويتخذها أساساً لتحديد شكل الدولة ونظامها السياسي، وتحديد سلطاتها وولاية كل سلطة، وعلاقة كل سلطة بالأخرى، وتحديد الحقوق والحريات الخاصة بالمواطنين".
هذه المبادئ التي تعتنقها وتؤمن بها الإرادة الشعبية في مرحلة تاريخية محددة، فهي انعكاس لفكرة سيادة الشعب التي تكون أولى النصوص التي تدرجها الدساتير وتحرص على النص عليها صراحة.
فالمدلول السياسي هو التعبير عن الاختيار السياسي للشعب الذي يعكس مختلف القيم التي يعتنقها في المجالات المختلفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ولكي تكون هذه الإرادة واضحة وملزمة لابد أن تقننها سلطة تأسيسية أصلية يتوافق الشعب على كنهها، وكيفية اختيارها. وعندما يتم تقنين هذه الإرادة الشعبية في صورة نصوص دستورية.
في هذه اللحظة التاريخية "لحظة وضع الدستور بمعرفة السلطة التأسيسية الأصلية" يتحد كل من المدلول السياسي والمدلول القانوني للدستور ولا يمكن الفصل بينهما أو التمييز بين ّأي من المدلولين.
ولا نقصد باللحظة التاريخية معناها اللغوي وإنما هي مرحلة تتوافق فيها الإرادة الشعبية مع النصوص المقننة بين دفتي الدستور. وقد تمتد هذه المرحلة إلى سنوات طويلة. وقد تكون قصيرة بحسب التطور أو التغير الذي يطرأ على المجتمع بما يمكن معه أن تتجه معه إرادة الشعب إلى التغيير. وهو أمر دقيق، ويحدث ببطء شديد ومع الزمن والتطور الذي يسير على وتيرة كبيرة في النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تبدأ في الظهور فجوة بين المدلول السياسي والمدلول القانوني الذي نتناوله حالاً.
2- المدلـــــــــول القانونـــــــي للدستــــــــــور:
ينصرف المدلول القانوني للدستور إلى القواعد القانونية التي قننتها السلطة التأسيسية لتعبر عن الرؤية القانونية التي يتبناها المشرع الدستورى للتعبير عن الإرادة السيادية للشعب. ويظهر هذا المدلول واضحًا إذا كنا في ظل دستور مكتوب، وخصوصًا إذا كان الدستور جامدًا.
فالدستور الجامد البعيد عن يد التعديل من قبل المشرع العادى أصبح عنوانًا للدولة القانونية، وأصبح هو الصيغة القانونية لعقد اجتماعى بين الشعب والسلطة بقصد إقامة نظام سياسى ديمقراطى، تكون فيه السيادة للشعب، بقصد إقامة دولة القانون.
والدستور بمدلوله القانوني هو الملزم للكافة فهو المجسد لإرادة الشعب، والدستور أولاً وأخيرًا لابد أن يستند إلى هذه الإرادة ذاتها، وليس إلى القواعد التي تعبر عن هــــــــــــــــــــــــــــــــــذه الإرادة داخل الدستور، فإذا اقتضى الأمر وضع دستور جديد أو تعديل الدستور القائم فإن مشروعية هذا الدستور أو مشروعية تعديله لابد أن يستند إلى الشعب صاحب السيادة وليس إلى القواعد المنصوص عليها في الدستور الأول الذي وضعه الشعب لأنه يعبر عن جيل قديم ولى. (1)
ولضمان مطابقة الممارسات السياسية لسلطات الدولة مع مبادئ الدستور عملت الدساتير الحديثة على حماية الدستور من خلال قضاء دستوري يختص بالرقابة على دستورية القوانين.(2)
- الشرعيـــــــــة الدستوريــــــــة، والشرعيــــــــة السياسيـــــــــــة:
وحين نتحدث عن الشرعية الدستورية، فإننا لا نتحدث إلا عن المدلول القانوني للدستور، باعتبار أن الدستور نظام قانوني ارتبط بنظام دستوري وضعي محدد، يتعين تطبيقه واحترامه تحت رقابة المحكمة الدستورية.
أما الشرعية السياسية فهي تدور حول المدلول السياسي للدستور الذي تتحدد معطياته في ضوء الديمقراطية الذي يعبر فيها الشعب على نحو صحيح قانونًا وواقعًا عن إرادته، وهو ما يتحقق إذا كانت السلطة التأسيسية الأصلية التي وضعت منبثقة من الشعب سواء بطريق الانتخاب أو بطريق الاستفتاء الشعبي.
ويتحقق ذلك كذلك كلما جاء تعديل الدستور بواسطة هيئة تأسيسية منبثقة عن الهيئة التأسيسية الأصلية في حدود التفويض الممنوح لها طبقًا للدستور.
الخلاصة: أن الشرعية الدستورية والمشروعية السياسية فكرتان مختلفتان تنتمي كل منهما إلى معيار مختلف عن الأخر تمام الاختلاف، فالشرعية الدستورية تنصرف إلى المبادئ و القواعد التي يتكون منها الدستور كنظام قانوني وتلتزم باحترامه كافة السلطات العامة وإلا أصبح ما تصدره عملاً باطلاً، أما المشروعية السياسية فهي الصفة التي تتعلق بالسلطة كلما كانت قراراتها ومعاييرها المرجعية تحظى بالإجماع أو الأغلبية الكبيرة للمحكومين وتعبر عن إرادتهم.(1)
- كيـــــــــــف نوائـــــــــــــم بيــــــــــن المجالـــــــــين :
أو كيفية التوصـــــــــل إلـــــــــــــى التطابق بين المجالين إلى أقصى مدى؟
قبل ظهور فكرة الدساتير المكتوبة لم يكن ثمة مجالين للدستور بل كان مجالاً واحدًا وهو المجال السياسي فهو الذي كان يعبر عن رأى الشعب صاحب السيادة أو مع مرور الزمن كان صاحب السيادة يستشعر أهمية التغيير في بعض القواعد حتى تواكب الزمن ومتغيراته فترك الأعراف والمبادئ القديمة وتهجرها، وتجرى على خلافها حتى تستقر كقاعدة دستورية ملزمة .
لكن مع مرور الزمن، وظهور الدساتير المكتوبة، وانتشارها بدأت فكرة وجود معنيين للدساتير معنٍ "مقنن" وينطق بالشرعية، ومعن يجرى به العمل بين الأطراف السياسية الفاعلة، ومع قدم العهد ببعض الدساتير وسرعة التقدم في المجالات المختلفة للمجتمع ظهرت -كما ذكرنا- الفجوة او الهوة بين نصوص الدستور والواقع وظهر ما سمى "المعنى السياسي للدستور" و"المعنى القانوني له"0
وعمومًا- وأيا كان السبب فى وجود هذه الفجوة – سواء كانت تقليدية صناعة الدساتير- وصياغتها وعدم إحاطة السلطة التأسيسية الأصلية بكل ما يحقق مصلحة المجتمع أو عدم مصداقيتها في ترجمة إرادة الجماعة- بعدم تضمين نصوص الدستور مالا تطيقه الجماعة أو التفريط فيما تتوق إليه في حاضرها أو مستقبلها سواء القريب أو البعيد ...... أو كانت الصياغة اللفظية لنصوص الدستور وشدة إيجازها أو إتيانها بالكثير من التفصيلات التي تنافى جمودها. كل هذه الأمور تلقى على عاتق السلطة التأسيسية المنشأة عبء ضمان سيادة المشروعية السياسية وتقنينها لتصبح مشروعية قانونية.
وتبدو الصعوبة في تحديد مبادئ المشروعية السياسية في ضوء العولمة وسهولة انتقال الأفكار عبر الوسائل التكنولوجية في نقل المعلومات وخاصة تلك المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وظهور إيديولوجيات دولية مختلفة أفرزتها العلاقات الدولية المعقدة وسط عالم متغير يموج بالتحديات والمصالح المتعارضة أسفرت عن معايير مزدوجة في تحديد المقصود بالشرعية الدولية وكل هذه العناصر قد تؤدى إلى التأثير في مضمون المشروعية السياسية بحثًا عن شرعية دستورية تترجمها من خلال تعديل دستوري .
وعلى وجه العموم، فإنه يمكن ضمان المشروعية السياسية في النظم الديمقراطية كلما كانت السياسات التي تضمنها الحكومات ملبية لاحتياجات الشعب وضامنة للحقوق الأساسية، وكلما توافرت – بطبيعة الحال – آليات الرقابة والمساءلة، وكلما تم إعلاء سيادة القانون وضمان استقلال القضاء ودعم وزيادة المشاركة في صنع القرار.
وفى الواقع فإن مشروعية الدستور تبنى على مشروعيته السياسية القائمة على إرادة الشعب صاحب السيادة، وهو ما يتحقق منذ اللحظة التي توافق فيها الإرادة الشعبية على الدستور. وفى هذه الحالة تختلط صحة الدستور بمشروعيته في النظام الديمقراطي.(1)
فالدستور بمعناه الوضعي لا يدين بوجوده لأية قاعدة من القواعد مهما كانت، وإنما يستمد وجوده من الإرادة السياسية للشعب صاحب السيادة. فهذه الإرادة تعطيه كلاً من المشروعية السياسية والقانونية في آن واحد من خلال السلطة التأسيسية الأصلية المنشأة للدستور وتستمر هذه الإرادة السياسية للشعب عند قيام سلطة تأسيسية أصلية منشئة تتولى وضع دستور جديد. كما تستمر هذه الإرادة السياسية عندما تتولى سلطة فرعية أولتها السلطة الأصلية المنشئة مهمة تعديل الدستور طالما التزمت هذه السلطة الفرعية عند تعديل الدستور بالضوابط التي حددتها الإرادة السياسية. وإذا انهارت الإرادة السياسية بتفكك الوحدة السياسية تعرض للانهيار كل من النظام السياسي والنظام الدستوري معًا.(1)
المبحـــــــــــث الرابـــــــــع
دور القاضـــــــــي الدستـــوري فــي تطويــــر الدستــــور دون تعديلــــــه
ما علاقة القاضي الدستوري بالدستور؟ هل للقاضي علاقة بتطوير الدستور؟ ما هو دور القاضي حين يباشر مهمة الرقابة الدستورية؟ ما يعنى أن مهمة القاضي الدستوري هي المحافظة على الدستور والدفاع عنه، والحيلولة دون مخالفته أو اختراق نصوصه من جانب أية سلطه من سلطات الدولة؟ هل ينحصر دوره في مجرد إعمال التطابق بين نصوص الدستور وبيان مدى خروج المشرع – سواء في القانون أو اللائحة – على أحكامه؟ وإعمال الجزاء المناسب والذي ينحصر في بطلان النصوص المخالفة؟ أم إن المحافظة على الدستور تعنى شيئا أخر؟
هــــــــــــــــذه التســــــــــــاؤلات جميعهــــــــــــا هــــــــــــو ما نحــــــــــــــاول الإجابــــــــــــة عنهــــــــــــا:
إذا كانت وظيفة القاضي الدستوري الأساسية هي الرقابة القضائية على دستورية القوانين و اللوائح، فإن هذه المهمة تقتضى التوفيق بين القيم المتنازعة، والمصالح المتضاربة من خلال أحكام قضائية لا تتناول الدستور باعتباره مجرد وثيقة قانونية، ولكنها تتعامل مع نصوصه بوصفه خليطًا من السياسة والقانون وتنقلها من مفاهيمها النظرية إلى حقائق واقعية خاصة وأن نصـــــــــــوص الدستور لا يجوز النظر إليها دون فهم للحياة السياسية التي تواجهها .
كما أن الشعوب لم تكن تقصد بالطبع حال تسطيرها لوثائقها الدستورية أن تجعل منها ناموسًا ثابتًا لا يتغير ولم تقصد أبدًا إلى تأبيدها وسرمديتها، حتى وإن بالغت في فرض القيود على تعديلها، فلم تقصد سوى إضفاء حرمه خاصة على تعديلها، فظروف تطبيق القواعد الدستورية قد تتغير عن ظروف إصدارها، حيث إن ظروف كل جماعة سرعان ما تتبدل و تتغير، فتتباين غاياتها تبعًا لتغير أوضاعها ولا تستطيع حركة التدوين ملاحقة هذه التغيرات مع وجود الإجراءات الخاصة والشديدة المفروضة على التعديل فاتجه الفكر الدستوري الحديث إلى "القاضي الدستوري" والالتزامات التي تلقيها الدساتير على عاتقه، وتفسير هذه الالتزامات التفسير الصحيح ، فهناك التزام نأخذه ببساطة وهو " حفظ وحماية الدستور ".
هذا الالتزام يوجب اتساع سلطان القاضي الدستوري وأن يتبنى هذا القاضي نهجًا غير تقليدي عند مباشرته لمهمته المتعلقة بالرقابة على الدستورية وصيانة الدستور واحترام أحكامه ليتطور دورة من الحد من إصدار قوانين تنتهك الدستور إلى الحد من اعتداء المشرع الدستوري نفسه على الدستور لتخليه عن دوره في تحديث وتطوير الدستور عن طريق التعديل الدستوري بما يضمن للدستور اتصال معناه باستمرار.(1) واعتماده لمنهج التفسير المتطور الذي يتطلب إحداث فهم دستوري جديد لنص دستوري سبق تفسيره على نحو مغاير. كما سبق إن رأينا من قبل.
والحقيقة أن المسائل الدستورية ترتبط بوقائعها وبزمنها وبما هو قائم من ظروفها عند الفصل فيها، وانه حتى في مجال عمل السلطة التشريعية ، فإن البدائل التي تختارها اليوم قد تتحول عنها في الغد إذا كان العدول عنها أكثر منطقية وأدعى لضمان الحقوق التي تنظمها.
ويتعين دومًا التأكيد بأن القضاة يطورون نصوص الدستور بما يجعلها أكثر تناغمًا مع روح العصر ولولا تدخلهم لظل الدستور وثيقة عاجزة عن مواجهة آمال مواطنيها قاصرة عن مواجهــــــــة طموحاتهم، و يظل في جميع الأحوال ضرورة تطوير الدستور قضائيًا حقيقة قائمة(1).
فقد تكون جهة الرقابة على الشرعية مواجهة بأوضاع قومية طارئة لا نزاع في حدتها، وعليها عندئذ أن تقرر الحلول الملائمة لها أخذة في اعتبارها ملامحها السياسية الضاغطة وبمراعاة أن سلطتها في مجال تطبيق النصوص الدستورية أعمق في محتواها وأبعد في اتساعها من سلطتها في مجال تطبيقها غير الدستور من فروع على القانون وعلى الأخص إذا كان أمر الرقابة على الشرعية الدستورية مركزًا فيها تقبض دون غيرها وبيدها على ضوابطها ، وتقرر بنفسها مناهجها وأدواتها فلا تظهر جهـــــــــــة الرقابــــة على الشرعية الدستورية إلا وكأنها تماثل السلطة التأسيسية التي تعطى باستمرار للدستور معانٍ جديدة يتغير بها عن الصورة الأصلية التي أفرغ فيها بما يجعلها حكما أعلى في مجال تفسير نصوصه .
ولئن كان الدستور يتطور من خلال تعديل أحكامه، وكذلك عن طريق العمل، وبوثائق إعلان الحقوق وبما يقرره المواطنون في مؤتمراتهم الدستورية، إلا أن جهة الرقابة على الشرعية الدستورية هي التي تغير بصورة رئيسية وعن طريـــــــــــــــــــــق أحكامها ملامح الدستور فلا تتحفظ في مجال تفسيرهـــــــــــــــــــا لقواعده بل تعيد بنائها بقدر الضرورة التي تواجهه بما يصون للدولة وحدتها وتكامل إقليمها.(1)
وتطوير الدستور أما أن يكون تطويرًا للمبادئ والأحكام التي اشتمل عليها. وإما أن يكون تطويرًا بمعالجة موضوعات سكت الدستور عن تنظيمها حال كونها لازمة للمجتمع لزوم الأحكام التي احتواها الدستور وربما أكثر.
وسنفصل القول في طرق التطوير عند تناولنا للنقطة الأخيرة في بحثنا حول " دور المحكمة الدستورية العليا في تطوير الدستور ".
المبحث الخامـــــــــس
دور المحكمـــــــــــــة الدستوريـــــــــــــة العليـــــــــــــا فـــــــــــــي تطويـــــــــــــر الدستـــــــــــــور
كانت المحكمة الدستورية العليا من المحاكم الدستورية الرائدة في حماية الدستور المصري، حماية مستمرة تتوالى مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تحدث في المجتمع المصري، فأتت بالتفسير المطور لنصوص الدستور وكانت المحكمة منذ أحكامها الأولى واعية بمفهوم الدستور وماهيته، وكيف يفسر، وأن النص الدستوري لا يفسر بمعزل عن النصوص الأخرى، مع الحفاظ على المضمون الحقيقي للنص ذاته، وأكدت على أنه لا تدرج بين أحكام الدستور وليست هناك درجات للحماية الدستورية.
وتطوير نصوص الدستور من خلال موالاة النظر في معانيها على ضوء الأوضاع المتغيرة التي تلازم تطبيقها لإعطائها المعنى الذي يتوائم مع المرحلة الحاضرة أي ما سمى "باعتبار الدستور كائنًا حيًا، وإن الدستور لا يجوز النظر إليه على أنه نصوص جامدة، بل باعتبارها متطورة كلما لزم الأمر فهي نابضة بالحياة".
وأنه لا يجوز أن تفسر نصوص الدستور باعتبارها حلاً نهائياً لأوضاع اقتصادية عفا الزمن عليها.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، واجهت المحكمة الدستورية العليا الفراغ في نصوص الدستور وعدم وجود حكم لبعض المسائل الدستورية أو لجانب من الحقوق والحريات.
ونتناول من خلال أحكام المحكمة الدستورية العليا تطوير بنصوص الدستور في موضعين هامين:(1)
الموضع الأول: تفسير الدستور تفسيرا على ضوء الأغراض النهائية للنصوص لمواجهة أوضاع اقتصادية جديدة.
الموضع الثاني: ملء الفراغ في أحكام الدستور
أولاً: التفسير المطور للدستور على ضوء الأغراض النهائية لمواجهة أوضاع اقتصادية جديدة.
كان من أوائل الأحكام التي تناولت فيها المحكمة الدستور، وفسرت نصوصه تفسيرًا مطورًا لمفاهيمه بما يتفق مع الأغراض الاجتماعية والاقتصادية التي اتجه إليها المجتمع، الحكم الصادر في الدعوى رقم 7 لسنة 16 قضائية "دستورية" بجلسة 1/2/1997 والمشهور بحكم "الخصخصة"، فقد كان دستور 1971يتبنى فكرة الاشتراكية والاعتماد على القطاع العام فقد نص في المادة الرابعة على أن "الأسس الاقتصادية لجمهورية مصر العربية هو النظام الاشتراكى" كما نصت المادة (24) منه على أن "يسيطر الشعب على كل أدوات الإنتاج وعلى توجيه فائضها وفقًا لخطة التنمية التي تضعها الدولة". كما نصت المادة (30) على أن "الملكية العامة هي ملكية الشعب وتتأكد بالدعم المستمر للقطاع العام ويقود القطاع العام التقدم في جميع المجالات ويتحمل المسئولية الرئيسية في خطة التنمية".
في ظل هذه النصوص الدستورية الواضحة صدر قانون شركات قطاع الأعمال العام رقم 203 لسنة 1991 الذى أجاز تداول أسهم شركات تابعة لشركات قابضة ولو أدى هذا التداول إلى بيعها للقطاع الخاص بما يمثل- في نظر البعض ردة عن الدور الرائد للاستثمار العام.
فطُعنَ بعدم دستورية بعض نصوص هذا القانون، وكان حكم المحكمة الدستورية العليا الذي نضع جانباً كبيراً من حيثياته أمام القارئ لتعميم الفائدة ومن خلال هذه الحيثيات تتضح وجهة نظر المحكمة في تفسيرها لنصوص الدستور ".
" وحيث إن المدعى طلب كذلك - وبصفة احتياطية - الحكم بعدم دستورية قانون شركات قطاع الأعمال العام - في جملة الأحكام التى تضمنها - باعتبار أن الأغراض التي استهدفها منافية لنص المادة (30) من الدستور التي تمنح القطاع العام دوراً تقدمياً يتحمل به المسئولية الرئيسية في خطة التنمية، ويقود خطاها فى مختلف مجالاتها بيد أن القانون المطعون فيه أجاز بنص المادة (20) تداول أسهم وحدات هذا القطاع، وهو ما يعنى نقل ملكيتها إلى القطاع الخاص، وزوال السيطرة الشعبية عليها، ووجود نوع من الاقتصاد المختلط تنماع به الحدود الفاصلة بين صور الملكية التى حددها الدستور، وفى الصدارة منها الملكية العامة التي كفل حرمتها، وجعل حمايتها ودعمها. واجباً وطنياً على ما تنص عليه مادته الثالثة والثلاثون. وحيث إن هذا النعى.
مردود أولاً: بأن النصوص القانونية التى تقرها السلطة التشريعية انحرافاً بها عن مقاصد حددها الدستور، وتنكبها بالتالى لأغراض عَيَّنها، تفترض أن تكون هذه المقاصــــــــد والأغــــــــــراض من مكوناتها، فلا ينفصل بنيانها عنها، بل تشملها المطاعن الموضوعية بالنظر إلى اتساعها لكل عوار لا يرتبط بالأوضاع الشكلية التى يتطلبها الدستور فى النصوص القانونية.
ومردود ثانياً: بأن النصوص الدستورية لايجوز تفسيرها باعتبارها حلاً نهائياً ودائماً لأوضاع اقتصادية جاوز الزمن حقائقها، فلايكون تبنيها والإصرار عليها، ثم فرضها بآلية عمياء إلا حرثاً فى البحر بل يتعين فهمها على ضوء قيم أعلى غايتها تحرير الوطن والمواطن سياسياً واقتصادياً.
ومردود ثالثاً: بأن قهر النصوص الدستورية لإخضاعها لفلسفة بذاتها، يعارض تطويعها لآفاق جديــــــــدة تريـــــــــــــــــد الجماعـــــــــــــــة بلوغها، فلا يكون الدستور كافلاً لها، بل حائلاً دون ضمانها.
ومردود رابعاً: بأن التنمية الاقتصادية والاجتماعية التى يتطلبها الدستور، هدفها تغيير أشكال من الحياة من خلال منظومة تتكامل روافدها، يكون التعليم فيها أكثر عمقاً وامتداداً، والبيئة التى نعايشها خالية من ملوثاتها بصورة أشمل، والفرص التى يتكافأ المواطنون فى الحصول عليها أبعد نطاقاً، وتوكيد حرياتهم كافلاً حيويتها واكتمالها ومساواتهم فى مباشرتها، وحياتهم الثقافية أكثر ثراءً ووعياً، ونظم معاشهم أفضل بمزاياها وعلو مستوياتها ومن ثم تتحقق التنمية - وميادينها متعددة - من خلال الاستثمار فى رأس المال - مادياً كان أو بشرياً - لتقارنها زيادة فى الدخل توجهها قدرة الجماعة فى زمن معين على أن تتخطى عثراتها، وأن تكرس مواردهـــــــــــــــا لإحداثهـــــــــــــــا، وأن تكون مدخلاتها تقدماً علمياً معززاً باستثماراتها التى يرتبط معدل النمو بزيادتها واستدامتها وتصاعد إنتاجيتها، ضماناً لإفادة المواطنين منها، ولو بدرجات متفاوتة.
ومردود خامساً: بأن الاستثمار بمختلف صوره -العام منها والخاص- ليس إلا أموالاً تتدفق وسواء عبأتها الدولة أو كونها القطاع الخاص، فإنها تتكامل فيما بينها. ويعتبر تجميعها لازماً لضمان قاعدة إنتاجية أعرض وأعمق لايكون التفريط فيها إلا ترفاً، ونكولاً عن قيم يدعو إليها التطور ويتطلبها وما تنص عليه المادة (29) من الدستور من أشكال للملكية تتقدمها الملكيــــــــــة العامـــــــــــة، وتقوم إلى جانبها كل من الملكية التعاونية والملكيـــــــــــة الخاصـــــــــــــــــــة، ليس إلا توزيعاً للأدوار فيما بينها لايحول دون تساندها وخضوعها جميعاً لرقابة الشعب. ومقتضاها أن يكون الاستثمار العام قوداً للتقدم، معبداً الطريق إليه، فلا يقتصر على ميادين محدودة، بل يمتد إلى مواقع رئيسية تعمل الدولة من خلالها على تنفيذ مهامها السياسية والاجتماعية، ويندرج تحتها متطلباتها فى مجال الدفاع والأمن والعدل والصحة والتعليم وحماية بيئتها ومواردها، وصون بنيتها الأساسية، والحد من نمو سكانها، وأداء خدماتها بوجه عام لغير القادرين، ولازمها أن تعزز قيادتها هذه بدعمها لأعباء يقصر الاستثمار الخاص عن تحملها.
ومردود سادساً: بأن تواصل التنمية وإثرائها لنواتجها -وعلى ما تنص عليه المادة (30) من الدستور- إنما يمثل أصلاً يبلوره الاستثمار العام. ولئن مهد هذا الاستثمار الطريق إلى الاستثمار الخاص، وكان جاذباً لقواه، إلا أنه أسبـــــــــــــــــــــــــق منه وجوداً، وأبعد أثراً، إذ يمتد لميادين متعددة لايقبل عليها الاستثمار الخاص أو يتردد فى ولوجها، وإن كان تدفق الاستثمار العام لمواجهتها لازماً ضماناً لسير الحياة وتطويراً لحركتها. بما مؤداه: أن لكل من الاستثمارين العام والخاص دوره فى التنمية، وإن كان أولهما قوة رئيسية للتقدم تتعدد مداخلها، وليس لازماً أن يتخذ هذا الاستثمار شكل وحدة اقتصادية تنشئها الدولة أو توسعها، ولاعليها أن تبقيها كلما كان تعثرها بادياً، أو كانت الأموال الموظفة فيها لاتغل عائداً مجزياً، أو كان ممكناً إعادة تشغيلها لاستخدامها على نحو أفضل. ولا مخالفة فى ذلك للدستور، بل هو تكريس لتلك القيم التى يدعو إليها، وفى مقدمتها أن الاستثمار الأفضل والأجدر بالحماية، يرتبط دوماً بالدائرة التى يعمل فيها، وعلى تقدير أن الاستثمارين العام والخاص شريكان متكاملان، فلا يتزاحمان أو يتعارضان أو يتفرقان، بل يتولى كل منهما مهاماً يكون مؤهلاً لها وأقدر عليها. وإن جاز القول بأن الاستثمار العام يثير قدرة المواطنين ويقظتهم وتميزهم، وعلى الأخص من خلال نقل التكنولوچيا وتطويعها وتعميمها.
ومردود سابعاً: بأن ما تنص عليه المادة (20) من قانون شركات قطاع الأعمال العام من جواز تداول أسهم الشركات التابعة لشركات قابضة -ولو آل هذا التداول إلى بيعها للقطاع الخاص- لايمثل ردة عن الدور الرائد للاستثمار العام. بل هو صون لموارد لايجوز تبديدها أو بعثرتها، ضمانًا لتواصل التنمية وترابط حلقاتها، فى إطار من التعاون بين شركائها.
وحيث إن من المقرر أن شرط المصلحة الشخصية المباشرة، يتغيا أن تفصل المحكمة الدستورية العليا فى الخصومة الدستورية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية أو تصوراتها المجردة، وهو كذلك يقيد تدخلها، فلاتفصل فى غير المسائل الدستورية التى يؤثر الحكم فيها على النزاع الموضوعى ومؤداه: ألا تقبل الخصومة الدستورية إذا رفعها إليها غير الأشخاص الذين أضر بهم النص المطعون فيه، سواء أكان هذا الضرر اقتصادياً أم غيره، وشيكاً يتهددهم، أم كان قد وقع فعلاً. ويتعين دوماً أن يكون هذا الضرر منفصلاً عن مجرد مخالفة النص المطعون فيه للدستور، مستقلاً بالعناصر التى يقوم عليها، ممكناً تصوره ومواجهته بالترضية القضائية تسوية لآثاره، عائداً فى مصدره المباشر إلى النص المطعون فيه. فإذا لم يكن هذا النص قد طبق أصلاً على من ادعى مخالفته للدستور، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه، أو كان الإخلال بالحقوق التى يدعيها لايعود إليه، دل ذلك على انتفاء المصلحة الشخصية المباشرة، ذلك أن إبطال النص التشريعى فى هذه الصور جميعها، لن يحقق للمدعى أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانونى بعد الفصل فى الدعوى الدستورية، عما كان عليه قبلها.
وحيث إن النزاع الموضوعى، مداره حق المدعى فى الحصول على الحوافز ومكافآت الإنتاج التى كان يتقاضاها قبل دمج الشركة التى كان يعمل فيها فى غيرها وفقاً لقانون شركات قطاع الأعمال العام؛ وكان المدعى قد طعن على الأحكام التى تضمنها هذا القانون فى جملتها، فإن ما يتصل منها بالنزاع الموضوعى، هى وحدها التى تتعلق بها دعواه الدستورية، وإليها دون سواها تمتد رقابة هذه المحكمة على الشرعية الدستورية، لتفصل فى دستورية أحكام المواد (5) من قانون إصدار قانون شركات قطاع الأعمال العام، والمواد (33، 43) من ذات القانون أما المواد (3، 20، 55) من هذا القانون التى أثار المدعى عدم دستوريتها - من باب الاحتياط الكلى - فلا شأن للنزاع الموضوعى بها، ذلك أن أولها يتعلق بكيفية تشكيل مجلس إدارة الشركة القابضة ومكافآت أعضائه ورواتبهـــــــــــــــــــــــــــم ؛ وثانيتهما بجواز تداول أسهم الشركات التابعة لشركات قابضة وفقاً للأحكام التى بينتها اللائحة العامة لبورصات الأوراق المالية، وثالثتها بالقواعد التى يتم على ضوئها مراقبتها مالياً.
وحيث إن الدعوى الدستورية - وقد تحدد نطاقها على هذا النحو - فقد غدا لازماً التقيد بحدودها واستبعاد ما عداها من النصوص التى لا شأن لها بالنزاع الموضوعى أصلاً، وإنما عرضها المدعى على هذه المحكمة بصورة مجردة استظهاراً لحكم الدستور بشأنها، مجاوزاً بذلك بها حدود ولايتها التى لاتتدخل بها إلا بوصفها ملاذًا نهائيًا، مرتبطاً وجوداً وعدماً بتلك الأضرار التى يكون إيقاعها بالمدعى مفوتاً عليه مصلحة مشروعة يبتغيها، فلايكون الضرر فى إطارها متوهماً أو منتحلاً.
وحيث إن المواد المطعون عليها - والمتصلة بالنزاع الموضوعي - هى التى صاغها المشرع على النحو الآتى:-
مادة (5): من قانون إصدار قانون شركات قطاع الأعمال العام:
مع عدم الإخلال بما ورد فى شأنه نص خاص فى هذا القانون المرافق، لايسرى نظام العاملين بالقطاع العام الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1978 على العاملين بالشركات الخاضعة لأحكام القانون المرافق، وذلك اعتباراً من تاريخ العمل باللوائح المشار إليها.
مادة (33): من القانون المرافق ونصها:
"يكون للعاملين بالشركة نصيب فى الأرباح التى يتقرر توزيعها تحدده الجمعية بناء على اقتراح مجلس الإدارة بما لايقل عن 10% من هذه الأرباح. ولايجوز أن يزيد مايصرف للعاملين نقدا من هذه الأرباح على مجموع أجورهم السنوية الأساسية. وتبين اللائحة التنفيذية كيفية توزيع ما يزيد على مجموع الأجور السنوية من الأرباح على الخدمات التى تعود بالنفع على العاملين بالشركة.
مادة (43): من القانون المرافق ونصها :
يراعى فى وضع اللوائح المنظمة لشئون العاملين مايأتى:-
أولاً: أن يكون لكل شركة هيكل تنظيمى وجدول وظائف بما يتفق مع طبيعة أنشطة الشركة وأهدافها.
ثانياً: إلتزام نظام الأجور بالحد الأدنى المقرر قانوناً.
ثالثاً: ربط الأجر ونظام الحوافز والبدلات والمكافأت وسائر التعويضات والمزايا المالية للعاملين فى ضوء ماتحققه الشركة من إنتاج أو رقم أعمال وما تحققه من أرباح.
وحيث إن المدعى ينعى على المواد السابقة - والتى تحدد نطاق الطعن بها - إخلالها بنص المادة (59) من الدستور التى تقضى بصون المكاسب الاشتراكية ودعمها وحمايتها، ويندرج تحتها الضمانة ضد الفصل والنقل وإجازات العاملين مع التقيد بحد أقصى للأجور.
وحيث إن هذا النعى مردود أولاً: بأن الدستور، وإن كفل بنص المادة (59) ما أسماه "بالمكاسب الاشتراكية" واعتبر دعمها والحفاظ عليها واجباً وطنياً، إلا أنه خلا من كل تحديد لها يكون معرفاً بمضمونها ونطاقها، بل جهل تماماً بها، ولم يحل حتى إلى قانون لبيان مكوناتها، ولا يتصور بالتالى أن يكون الدستور كافلاً للعمال غير تلك الحقوق والمزايا التى نص عليها فى شأنهم ومردود ثانياً: بأن المزايا التى ينشئها المشرع للعمال، لا يجوز اعتبارها جزءاً من مكاسبهم إذا خلا الدستور منها، بل يكون أمر بقائها أو زوالها بيد المشرع فى حدود سلطته التقديرية، ووفق شــــــــــــــــــــروط موضوعيــــــــــــة ومردود ثالثاً: بأن الحقوق التى ضمنها الدستور للعمال شأنها شأن غيرها من الحقوق التى كفلها لسواهم، لا يجوز فصلها عن مسئولية اقتضائها، ولامقابلتها بغير واجباتها، ومدخلها بالضرورة أن تكون المزايا التى ربطها الدستور بالعمل، محددة نطاقاً على ضوء قيمته، فلا تتساقط على من يطلبونها بغير جهد منهم يقارنهــــــــــــــــا ويعادلها، وإلا كان عبؤها فادحا وإضرارها بالثروة القومية بعيدًا بل إن ديباجة الدستور ذاتها تقرر بأن التطوير الدائم لأوضاع الحياة فى الوطن ينبغى أن يكون نهجاً متواصلاً وعملاً دؤوباً، مرتبطاً بإطلاق الجماهير لطاقاتها وملكاتها، فلا يكون إسهامها حضارياً وإنسانياً إلا عن طريق العمل وحده. وهو ما تنص عليه المادة (25) من الدستور التى تكفل لكل مواطن نصيباً من الناتج القومى يحدده القانون بمراعاة عمله وملكيته غير المستغلة ولئن حدد الدستور بنص المادة (23) الأغراض التى ينبغى أن تتوخاها خطة التنمية، ومن بينها زيادة فرص العمل، وتقرير حدين للأجور لاتقل فيه عن أدناهما ولاتربو على أعلاهما، ضماناً لتوازن الدخول وتقريبهــــــــــــا فيما بينها، إلا أن هذه المادة ذاتها تقيم رباطاً وثيقاً بين الأجــــــــــــــر والإنتــــــــــــــــــاج، فلا يكون الأجر وما يتصل به من المزايا، إلا من ناتج العمل وبقدره وتردد المادة (26) من الدستور هذا المعنى من خلال ضمانها للعمال نصيباً فى إدارة مشروعاتهم وفى أرباحها، يقترن بالتزامهم بتنمية الإنتاج والمحافظة على أدواته، وتنفيذ الخطة الاقتصادية داخل وحداتهم وفقاً للقانون. وهو ما يعنى أن للحقوق أسبابها وأدواتها وشرائطها، فلا يكون طلبها لازما إلا باستيفائها. ومردود رابعاً: بأن الدستور حرص بالنصوص التي تضمنها على أن تكون التنمية طريقاً وهدفاً، وأن تكون وسائلها أعون على إنفاذها، وأن يكون التكامل بين مراحلها وعياً عميقاً. بل أن ديباجة الدستور تؤكد أن قيمة الفرد -التى ترتبط بها مكانة الوطن وقوته- مردها إلى العمل، وأن النضال من أجل الحرية يقتضى أن يكون دور المواطنين فى تثبيتها فاعلا وإذا صح القول بأن الحرية السياسية والحرية الاقتصادية متكاملتان، فإن العمل -وكلما كان مبرءاً من الاستغلال- كان طريقا لتحرير الوطن والمواطن ولايجوز بالتالى أن يقترن بمزايا لايرتبط عقلاً بها ومردود خامساً: بأن الدستور وثيقة تقدمية لاتصد عن التطور آفاقه الرحبة، فلايكون نسيجها إلا تناغماً مع روح العصر ومايكون كافلاً للتقدم فى مرحلة بذاتها، يكون حريا بالإتباع بما لايناقض أحكاما تضمنها الدستور ومردود سادساً: بأن تنظيم المشرع للشركات القابضة والتابعة يعتبر بديلاً عن تنظيم هيئات القطاع العام وشركاتها، وكان منطقياً بالتالى - بعد أن نص قانون شركات قطاع الأعمال العام، على نقل عمال هذه الهيئات وشركاتها إلى الشركات القابضة والشركات التابعة لها بذات أوضاعهم الوظيفية وأجورهم وبدلاتهم ومزاياهم النقدية والعينية وتعويضاتهم - أن تصدر لوائح جديدة تنظم شئونهم الوظيفية بالشركات المنقولين إليها، وألا يسرى نظام العاملين بالقطاع العام فى شأنهم اعتباراً من تاريخ العمل بهذه اللوائح التى لا دليل من الأوراق على أنها سلبتهم حقوقاً كفلها الدستور ولا منعتهم حقوقاً تتصل بصون الملكية العامة التي كفل الدستور دعمها بنص المادة (30). ومردود سابعاً: بأن الخطأ في تأويل أو تطبيق النصوص القانونية، لايوقعها فى حمأة المخالفة الدستورية إذا كانت صحيحة فى ذاتها.
ثانيًا: مــــــــــلء الفــــــــــراغ فـــــــــي أحكـــــــــام الدستــــــــور
في نظرتها التطويرية للدستور تناولت المحكمة الدستورية العليا المسائل التي لم ينص عليها الدستور، وخاصة تلك المتعلقة بالحقوق والحريات الأساسية وأكملت الفراغات التي لم يتناولها المشرع التأسيسي، وذلك عن طريق رد بعض فروع المسائل الدستورية لأصولها أو عن طريق رد بعض فروع المسائل الدستورية لأصولها أو عن طريق تفسير نصوص في الدستور، واستخـــــــــــــلاص بعــــــــــــــض الحقوق الدستوريــــــــــة الأخـــــــــــــرى التي لم يرد عليها نص في الدستور(1).
فعلـــــــى سبيـــــــــل المثــــــال:
- الحريــــــــــة الشخصيــــــــــة :
قد لا ينظم الدستور فروع بعض المسائل مكتفيًا ببيان أصلها وأصل القاعدة التي تجمعها، فالحكم الذي يسرى على هذا الأصل يسرى منطقياً على كافة فروعها، فلا تحظى الفروع بأقل من الحماية التي يحظى بها الأصل.
والحرية الشخصية التي يعدها الدستور من الحقوق الطبيعية، وضمان هذه الحرية لا يعنى غل يد المشرع عن تنظيمها لكن شريطة ألا ينال منها أو أن تكون قيوده جائزة ويتفرع عنها الكثير من الحريات:
1-حريــــــــــــة التعاقـــــــــــد:
أكدت المحكمة الدستورية العليا على أن "حرية التعاقد قاعدة أساسية يقتضيها الدستور، وهى فوق كونها من الخصائص الجوهرية للحرية الشخصية، فإنها وثيقة الصلة بحرية العمل، وذلك بالنظر إلى الحقوق التي يرتبها عقد العمل فيما بين أطرافه - أيًّا كان العامـــــــــــــل أو صاحب العمل- بيد أن هذه الحرية التي لا يكفلها انسيابها دون عائق، ولا جرفها لكل قيد عليها، ولا علوها على مصالح ترجحها، وإنما يدنيها من أهدافها قدر من التوازن بين جموحهـــــــــــــا وتنظيمهــــــــــــا، لا تعطلها تلك القيود التي تفرضها السلطة التشريعية عليها بما يحول دون انفلاتها من كوابحها، ويندرج تحتها أن يكون تنظيمها لأنواع من العقود محددًا بقواعد آمرة، تحيط ببعض جوانبها، غير أن هذه القيود لا يسعها أن تدهم الدائرة التي تباشر فيها الإرادة حركتها، فلا يكون لسلطانها بعد هدمها من أثر"(1).
2-الحــــــــــق فــــــــــي الزواج و الحــــــــــق فــــــــــي اختيـــــــــار الــــــزوج والحــــــق فــــــي تكويــــــن أســــرة.
استقر قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن "حق اختيار الزوج لا يمكن أن يكون منفصلاً عـن خواص الحياة العائلية أو واقعاً وراء حدودها، إذ يتصل مباشرة بتكوينها، ولا يعدو إنكاره أن يكون إخلالاً بالقيم التى تقوم عليها الحرية المنظمة، وهو كذلك يناقض شرط الوسائل القانونية السليمة، ومايتوخاه من صون الحرية الشخصية بما يحول دون تقييدها بوسائل إجرائيـة أو وفق قواعد موضوعية لا تلتئم وأحكام الدستور التى تمتد حمايتها كذلك إلى ما يكون من الحقوق متصلاً بالحرية الشخصية, مرتبطاً بمكوناتها، توقياً لاقتحام الدائرة التى تظهر فيها الحياة الشخصية فى صورتها الأكثر تآلفاً وتراحماً".(1)
كما أكدت المحكمة الدستورية العليا على أن "الحق فى الزواج، بما يشتمل عليه من حق اختيار الزوج، إنما يقعان داخل مناطق الخصوصية التي كفل صونها دستور جمهورية مصر العربية بنص المادة (45) التي تقرر أن لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون، ذلك أن الحق في الخصوصية يشملها بالضرورة باعتباره مكملاً للحرية الشخصية"(2).
وما يتفرع عن هذه الحقوق لأي من الزوجين، مرجعه إلى هذين الحقين، وإلى الحرية الشخصية.
وقد أوضحت المحكمة الدستورية العليا أن الحق في تكوين أسرة، وما يتفرع من ذلك حق كلا الزوجين (إجازة مرافقة الزوج)، مثلاً نص المادة (108) من اللائحة التنظيمية للعاملين بصندوق دعم صناعة الغزل والمنسوجات، وضع حداً أقصى للإجازة بدون مرتب التى تُمنح للزوج أو الزوجة، إذا رُخص لأحدهما بالسفر إلى الخارج، لا يجاوز أربع سنوات، فيحول بين العامل وبين الحصول على إجازة لمرافقة الزوج، إذا تجاوز مجموع ما حصل عليه من إجازات هذا الحد، كما خول الجهة الإدارية التى يتبعها العامل سلطة تقديرية تترخص معها فى منح هذه الإجازة فى حالة تجاوز هذا الحد، ليصبح منح الجهة الإدارية تلك الإجازة أو منعها، يتم وفقاً لمطلق تقديرها، على ضوء ما يكون متطلباً فى نظرها لحسن سير العمل. وكانت الأسرة التى حرص الدستور على صون وحدتها، وأقامها على الدين والخلق والوطنية، هى الأسرة المصرية بأعرافها وتقاليدها وتضامنها وتراحمها واتصال روابطها، فإن الحماية التى كفلها الدستور لها، لا تتحدد بالنظر إلى موقعها من البنيان الاجتماعى، ولا بطبيعة عمل أحد الأبوين أو كليهما، ولا بواقعة خضوعهما أو أحدهما لتنظيم وظيفى خاص أو عام، بل يتعين أن يكون مفهـوم الأسـرة ومتطلباتها نائياً عما يقوض بنيانها، أو يضعفها، أو يؤول إلى انحرافهـا، وإلا كان ذلك هدماً لهــــــــــــا، وإخلالاً بوحدتهــــــــــــــــــــــا التى قصد الدستور صونها لذاتها (1).
3- الحريـــــــة الشخصيــــــة فـــي مجــــال القانـــــــــون الأصلــــــح للمتهم :
أكدت المحكمة الدستورية العليا على "صون الحرية الشخصية من جهة، وضرورة الدفاع عن مصالح الجماعة والتحوط لنظامها العام من جهة أخرى، مصلحتان متوازنتان، فلا تتهادمان، وصار أمراً مقضياً، وكلما صدر قانون جديد يعيد الأوضاع إلى حالها قبل التجريم أو يعاقب بعقـاب أخف من أن ترد إلى أصحابها تلك الحرية، التى كان القانون القديم ينال منها، وأن يرتد هذا القانون على عقبيه، إعلاء للقيم، التى انحاز إليها القانون الجديد، وعلى تقدير أن صونها لا يخل بالنظام العام، باعتباره مفهوماً مرناً، متطوراً، على ضوء مقاييس العقل، التي لا ينفصل القانون الأصلح عنها، بل يوافقها، ويعمل على ضوئها، فلا يكون إنفاذه منذ صدوره، إلا تثبيتاً للنظام العام، بما يحول دون انفراط عقده، بعد أن صار هذا القانون أكمل لحقوق المخاطبين بالقانون القديم، وأصون لحرياتهم"(1).
كما أكدت المحكمة الدستورية العليا على أن "الحرية الشخصية من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها بالمخالفة لأحكام المادة (41) من دستور 1971، المقابلـة للمـادة (54) من الدستـور الحالي، والتى تنص على أن "الحرية الشخصية حق طبيعي، وهى مصونة لا تمس"، وتُعد بمثابة القاعدة التي يرتكز عليها مبدأ رجعية النصوص العقابية الأصلح للمتهم بالنسبة لما اقترفه من جرائم في تاريخ سابق عليها، ذلك أن الحرية الشخصية وإن كان يهددهـا القانـون الجنائي الأسوأ، إلا أن هذا القانون يرعاها ويحميها إذا كان أكثر رفقًا بالمتهم، سواء من خلال إنهاء تجريم أفعال أثمها قانون جنائي سابق، أو عن طريـــــــــق تعديــــــــــل تكييفهـــــــــــا أو بنيان بعض العناصـر التي تقـوم عليها، بما يمحو عقوباتها كلية أو يجعلها أقل بأسًا(1)
4- اختيــــــــار نــــــــوع التعليـــــــــم.
أكدت المحكمة الدستورية العليا على كفالة الدستور لحق التعليم إنما جاء انطلاقاً من حقيقة أن التعليم يعد من أهم وظائف الدولة وأكثرها خطـراً، وأنه أداتها الرئيسية التي تنمى فى النشئ القيم الخلقية والتربوية والثقافية، وتعده لحياة أفضل يتوافق فيها مع بيئته ومقتضيات انتمائه إلى وطنه، ويتمكن فى كنفها من اقتحام الطريق إلى آفاق المعرفة وألوانها المختلفة. والحق فى التعليم - الذي أرسى الدستور أصله - فحواه أن يكون لكل مواطن الحق فى أن يتلقى قدراً من التعليم يتناسب مع مواهبه وقدراته، وأن يختار نوع التعليم الذي يراه أكثر اتفاقاً وميوله وملكاته، وذلك كله وفق القواعد التي يتولى المشرع وضعها تنظيماً لهذا الحق بما لايؤدي إلى مصادرته أو الانتقاص منه، وعلى ألا تخل القيود التى يفرضها المشرع في مجال هذا التنظيم بمبدأي تكافؤ الفرص والمساواة لدى القانون اللذين تضمنهمـا الدستور.(1)
5- الحـــــق فــــــي الانضمــــــام إلى المنظمـــــــات النقابيـــــــــة.
أكدت المحكمة الدستورية العليا على أن لكل عامل حق الانضمام إلى المنظمة النقابية التي يطمئن إليها، وفى انتقاء واحدة أو أكثر من بينها -عند تعددها- ليكون عضواً فيها، وفى أن ينعزل عنها جميعا، فلا يلج أيا من أبوابها، وكذلك في أن يعدل عن البقاء فيها منهيا عضويته بها.(2)
وكذلك حرية التعبير التي تعد من الحريات الأم، ومن الأصول لباقي الحريات التي تتفرع عنها:
- حريـــــــة الاجتمـــــــــاع:
عنى نص المادة (73) من الدستور الحالي بحق الاجتماع وما يتفرع عنه من حقوق كالحق في تنظيم المواكب والتظاهرات، وجميع أشكال الاحتجاجات السلمية، بحسبان حق الاجتماع هو الملاذ الأمثل والبيئة الأفضل لممارسة حرية التعبير، تتفاعل الآراء من خلاله، وتتلاقى الأفكار وتتصادم عبره، وتنضج المفاهيم وتصقل الخبرات عن طريقه، استيلادًا لرؤى أكثر تطورًا، يساهم بها الأفراد فى بناء مستقبل أكثر إشراقًا لمجتمعاتهم(1).
- حريــــــــة الإبــــــــــــداع
ناطت المادة (23) من الدستور بالدولة كفالة حرية البحث العلمى، وتشجيع مؤسساته، وقد ألزمت المادة (47) من الدستور الدولة بالحفاظ على الهوية الثقافية المصرية، بروافدها الحضارية المتنوعة، وجعلت المادة (48) منه الثقافة حقًا لكل مواطن، تكفله الدولة، وتلتزم بدعمه وإتاحة المواد الثقافية بجميع أنواعها لمختلف فئات الشعب، دون تمييز بسبب القدرة المالية أو غير ذلك، وتعمل على تشجيع حركة الترجمة من العربية وإليها. كذلك فقد ألزمت المادة (50) منه الدولة بالحفاظ على تراث مصر الحضاري والثقافي، المادي والمعنوي، بجميع تنوعاته ومراحله. كما كفل الدستور في المادة (67) منه حرية الإبداع الفني والأدبي، وألزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك. كما ألزمت المادة (69) منه الدولة بحماية حقوق الملكية الفكرية بشتى أنواعها في كافة المجالات. وإذا كان ما تقدم هو محور اهتمـام الدستـور ومبتغـاه، فقد أفصح أيضًا عن المفترض الرئيس لبلوغ تلك الأهداف، بأن ألقى تبعاتها على عاتق المشرع، وسائر أجهزة الدولة، كل فى حدود اختصاصه، لاتخاذ ما يلزم لتحقيق تلك الغايات.(1)
كما أوضحت المحكمة الدستورية العليا أن " الإبداع - علميًّا كان، أم أدبيًّا، أم فنيًّا، أم ثقافيًّا - باعتباره أحد صور التعبير عن الرأى، ليس إلا موقفًا حرًا واعيًا، يتناول ألوانًا من الفنون، والعلوم تتعدد أشكالها، وتتباين طرائق التعبير عنها، فلا يكون نقلاً كاملاً عن آخرين، ولا ترديدًا لآراء وأفكار يتداولها الناس فيما بينهم - دون ترتيبها، أو تصنيفها، أو ربطها ببعض، وتحليلها - بل يتعين أن يكون بعيدًا عن التقليد والمحاكاة، وأن ينحل عملاً ذهنيًّا، وجهدًا خلاقًّا، ولو لم يكن ابتكارًا كاملاً جديدًا كل الجدّة، وأن يتخذ كذلك ثوبًا ماديًّا - ولو كان رسمًا، أو صوتًا، أو صورة، أو عملاً حركيًّا - فلا ينغلق على المبدع استئثارًا، بل يتعداه إلى آخرين انتشارًا، ليكون مؤثرًا فيهم، ومن ثم كان الإبداع، فى حياة الأمم، إثراءً لاترفًا، معمقًا رسالتها فى تغيير أنماط الحياة بها، بل هـو أداة ارتقائهـا، لا ينفصـل عن تراثها، بل يتفاعل مع وجدانها، كافلاً تقدمها من خلال اتصال العلوم والفنون ببعضهما، ليكون بنيانها أكثر تكاملاً، وحلقاتها أعمق ارتباطًا، ومفاهيمها أبعد عطاءً.
وحيث إن ما تقـدم مـؤداه: أن الإبـداع فى العلوم، والفنون - أيًّا كان لونها- ليس تسليمًا بما هو قائم من ملامحها، بل تغييرًا فيها، تعديلاً لبنيانها، أو تطويرًا لها، ليؤكد المبدع، بذلك، انفراده بإحداثها، فلا يمكن نسبتها لغيره، إذ هو صانعها، ولأن العناصر التى يضيفها لاينقلها بتمامها عن سواه، إنما تعود أصالتها إلى احتوائها على حد أدنى من عناصر الخلق التى تقارن الابتكار، فلا ينفصل عنها، بما يؤكد دلالتها على استقلال مبدعها بها، ويبلور نوع وعمق المشاعر التى تفاعل معها، مستثيرًا من خلالها، قوة العقل ومعطياتها، فلا يكون نبتها إلا إلهامًا بصيرًا، ويتعين على ضوء ما تقدم، أن يكون الإبداع محل تقدير الأمم على تباين مذاهبها، وتوجهاتها، وأن تيسر الطريق إليه بكل الوسائل التى تملكها، فلا ينعزل حبيسًا، أو يتمحض لهوًا أو ترفًا، بل ينحل جهدًا ذهنيًّا فاعلاً، ونظرًا متوثبًا فى تلك العلوم والفنون، يعيد تشكيلها، ويطرح أبعادًا جديدة لها، كافلاً ذيوع الحقائق التى تتعلق بتطوير عناصرها، ليكون نتاجها بعثًا من رقاد، وثمارها حقَّا عائدًا إلى المواطنين فى مجموعهم، يملكونها ويفيدون منها، ينقلون عنها ويتأثرون بها، على أن يكون مفهومًا أن الإبداع ليس بالضرورة إحياءً كاملاً أو مبتدءاً، ولا قفزًا فى الفراغ، بل اتصالاً بما هو قائم إكمالاً لمحتواه، وانتقالاً بمداه إلى آفاق أرحب، ومن المتصور بالتالى أن يكون الإبداع وئيدًا فى خطاه، وإن تعين دومًا أن يكون نهجًا متواصلاً على طريق يمتد أمدًا، رانيًا لآفاق لا تنحصر أبعادها، مبددًا مفاهيم متعثرة، متخذًا من الابتكار - مهما ضَؤل قدره - أسلوبًا ثابتًا، وعقيدة لا يُتَحَول عنها، لا امتياز فى الاقتناع بها والدعوة إليها والحض عليها لأحد على غيره، ليظل نهرا متجددًا، ومتدفقًا دون انقطاع.
وحيث إن الدستور الحالي قد انتهج منهـج الدساتير السابقـة عليه فى ترتيب أبوابه، إذ خصص الباب الأول للدولة، والباب الثاني للمقومات الأساسية للمجتمع، فضمَّن في الفصل الأول منه المقومات الاجتماعية، ناصًّا فى مادته الثامنة على أن "يقوم المجتمع على التضامن الاجتماعى"، وفى مادته العاشرة على أن "الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية، وتحرص الدولة على تماسكها، واستقرارها، وترسيخ قيمها"، وملزمًا فى مادته الحادية عشرة الدولة برعاية، وحماية الطفولة، والنشء، كما عيَّن فى الفصل الثانى المقومات الاقتصادية، وأورد المقومات الثقافية فى الفصل الثالث منه، فنص فى المادة (47) منه على أن "تلتزم الدولة بالحفاظ على الهوية الثقافية المصرية، بروافدها الحضارية المتنوعة"؛ ثم خصص الباب الثالث منه للحقوق والحريات والواجبات العامة، بكل أنواعها وصورها، فأورد به المادة (82)، التى نصت على أن "تكفل الدولة رعاية الشباب، والنشء، وتعمل على اكتشاف مواهبهم، وتنمية قدراتهم الثقافية، والعلمية، والنفسية، والبدنية، والإبداعية، وتشجيعهم على العمل الجماعى والتطوعى، وتمكينهم من المشاركة فى الحياة العامة"؛ وإذا كانت حرية التعبير، والإبداع الفنى لم يقيدها المشرع الدستورى بقيدٍ، إلا أن هذه الحرية، ليست طليقة من كل تنظيم، فالنصوص الدستورية تتكامل فيما بينها، فى إطار من الوحدة العضوية التى تجمعها، فلا تتفرق توجهاتها، أو تنعزل عن بعضها، بل يكون نسيجها متآلفًا، فيتعين تفسيرها بما يحول دون تهادمها أو تناقضها، فإن تلك الحرية تمارس، فى نطاق، المبادئ، والمقومات الأساسية للمجتمع، بما لا يمس قيمه الاجتماعية، والدينية، والروحية، والخلقية التى تحدد لهذه الحرية الدائرة التى تتحرك فيها، وتمارس من خلالها. كما أن الدستور قد أوكل للقانون تنظيــــــــــــــــــــــــم هــــــــذه الحرية، بما لا يمس أصلها، أو جوهرها، وهو القيد العام، الذي وضعه الدستور على سلطة المشرع العادي في تنظيم ممارسة الحقوق، والحريات كافة، وضمنه نص المادة (92) منه، ذلك أن تدخل المشرع صيانةً للقيم والمبادئ التي يقوم عليها بناء المجتمع، واحترام الشعور العام لأفراده، بتخويل الجهة الإدارية المختصة سحب ترخيص عرض ما يكون من المصنفات الفنية والأدبية مثيرًا للغرائز، أو التي يكون عرضها أو وصفها للسلوك نائيًا عن الخلق وشائنًا، والمفتقر فى محتواه إلى الجدية التى تدل على قيمته الأدبية أو الفنية أو السياسية أو العلمية، لايعتبر منافيًا لحرية التعبير، ذلك أن الدستور وإن كان يكفل للآراء والتعبير عنها الحرية التي تكفل ممارستها فى إطارها الدستوري، إلا أن حدود التأثير التي يبلغها المصنف الفني أو الأدبي الشائن في مثل الحالات المتقدمة، تجعله غير جدير بتلك الحماية، التي يكفلها الدستور"(1).
- نصـــــــــوص دستوريــــــة ترشـــــح لحقـــــــوق ليـــــــس منصوصًــــــــا عليهــــــــا:
قد يورد الدستور نصاً صريحاً بشأن حرمة الحياة الخاصة، وقد يتجاهل مثل هذا النص مكتفيًا بنصوص أخرى يمكن أن تقوم مقامه والعكس صحيح إذ أنه قد يورد من النصوص ما يشير إلى القول بوجود ثمة حقوق أخرى: فلا تنحصر الحقوق في تلك المنصوص عليها وإنما تندمج فيها تلك الحقوق التي كفلها ضمنًا لتعلو جميعها على ما سواها بما يحول دون تدخل المشرع لتحريفها.
وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا على ذلك في أكثر من موضع وعلى سبيل المثال أكدت فى حكمها على أنه لم يكن غريبًا أن يستخلص القضاء فى بعض الدول ذلك الحق من عدد من النصوص الدستورية التى ترشح مضموناتها لوجوده، وذلك من خلال ربطها ببعض وقوفًا على أبعاد العلاقة التى تضمها. فالدستور الأمريكى لايتناول الحـق فى الخصوصيـة بنـص صريـح. ولكن القضاء فسر بعض النصوص التى ينتظمها هذا الدستور بأن لها ظلالاً لاتخطئها العين، وتنبثق منها مناطق من الحياة الخاصة تعد من فيضها، وتؤكدها كذلك بعض الحقوق التى كفلها ذلك الدستور، من بينها حق الأفراد فى الاجتماع. وحقهم في تأمين أشخاصهم وأوراقهم ودورهم ومتعلقاتهم فى مواجهة القبض والتفتيش غير المبرر. وحق المتهمين فى ألا يكونوا شهودًا على أنفسهم توقيًا لإدلائهم بما يدينهم. وكذلك مانص عليه الدستور الأمريكي من أن التعداد الوارد فيه لحقوق بذواتها، لايجوز أن يفسر بمعنى استبعاد أو تقليص غيرها من الحقوق التى احتجزها المواطنون لأنفسهم(1).
أوضحت المحكمة الدستورية العليا أن "الحـق في أن تكـون للحياة الخاصـة تخومها بما يرعى الروابط الحميمة في نطاقهـــــــــــا, ولئن كانت بعض الوثائق الدستورية لا تقرر هذا الحق بنص صريح فيها، إلا أن البعض يعتبره من أشمل الحقوق وأوسعها، وهو كذلك أعمقها اتصالاً بالقيم التي تدعو إليها الأمم المتحضرة" (2).
هذه إطلالة سريعة، لما قامت به المحكمة الدستورية العليا إزاء نصوص الدستور، وإزاء الحقوق والحريات، ولا تزال وستظل قائمة على حماية الدستور حماية حقيقية واسعة المدى مستخلصة من نصوصه الكثير من الحقوق والحريات الفردية حفاظًا على حقوق الإنسان بوجه عام.
الهوامش
(1) المستشار الدكتور/ عبدالعزيز سالمان: رقابة دستورية القوانين سنة 1995 – دار الفكر العربى – صـ 60 وما بعدها. ويرجع الفضل فى وجود فكرة سمو القواعد الدستورية إلى الفقيه النمساوى " هانز كلسن، الذى ابتكر مبدأ " التدرج الهرمى للقواعد القانونية " ، وحجر الزاوية عند مدرسة كلسن - والتى تسمى مدرسة فيينا هى فكرة تدرج القواعد القانونية وتوالدها من بعضها. وتقوم هذه النظرية على أن القواعد القانونية تتوالد من الأعلى إلى الأدنى ففى القمة تأتى قواعد القانون الدولى العام الذى عندما يعترف بالدولة بوجودها وباختصاصاتها على شعبها وإقليمها.ويعترف بأن لها دستور، والدستور بدوره هو أساس الشرعية فى الدولة وهو أعلى مراتب القاعدة القانونية، والدستور هو الذى يعطى القانون أساسه وقوته، ومن القانون تتولد اللائحة وعلى اللائحة تعتمد القرارات الإدارية الفردية.وكل درجة قانونية مرتبطة بالدرجة التى تعلوها باعتبارها نتاجًا لها وبالدرجة التى تدنوها باعتبارها منتجة لها. هذا البنيان القانوني كاملاً لا يمكن حمايته إلا بإقرار وجود محكمة دستورية تتمتع باختصاص شامل برقابة دستورية القوانين.
( يراجع : هانز كلسن الأب الروحى للقضاء الدستورى – مقال للدكتور يحيى الجمل منشور بمجلة الدستورية – السنة الأولى – العدد الأول – يناير 2003.
(1) في تفصيلات هذا المبدأ موجز القانون الدستوري 1960 د. طعيمة الجرف ص 158 وما بعدها ، د. منذر الشاوي القانون الدستوري 1981 ، بغداد ص12 وما بعدها .
(1) د. طعيمة الجرف ، المرجع السابق ص 161.
(1) د. طعيمة الجرف المرجع السابق ص 162.
(1) القانون الدستوري، د. ثروت بدوى، القانون الدستوري وتطور الأنظمة السياسية فى مصر، سنة 1971، دار النهضة العربية، ص 78، د. عبد العزيز سالمان: المرجع السابق، ص 60 : 64.
(1) موجز القانون الدستورى- د. طعيمة الجرف، المرجع السابق ، ص 164 .
(1) موجز القانون الدستوري المرجع السابق ص 165 .
(2) المبادئ الدستورية العامة، للدكتور محمود حلمى ، 1970 ص 27 .
(1) الحكم الصادر فى الدعوى رقم 23 لسنة 15 ق دستورية – جلسة 5/2/1994.
(2) حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة : ٥ سبتمبر ۱۹۹۲، في القضية رقم : (٥٥) لسنة ٤ قضائية دستورية مجموعة أحكام المحكمة الدستورية العليا، الجزء الخامس، المجلد الثاني، الصفحة رقم: ۲۱ .
([1]) حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة ٥ فبراير ١٩٩٤، في القضية رقم: (٢٣) لسنة ١٥ قضائية" دستورية" مجموعة أحكام المحكمة الدستورية العليا، الجزء السادس، الصفحة رقم: ١٠٠.
(1) حكم المحكمة الدستورية العليا في الدعوى رقم 6 لسنة 13 قضائية" دستورية" جلسة 16/5/1992.
(1) يراجع: د أحمد فتحى سرور: منهج الإصلاح الدستورى سنة 2006 ص 26 وما بعدها. مطبعة مجلس الشعب.
(1) فى المعنى ذاته يراجع: بحثاً عن دور القضاء الدستوري في تحقيق التواصل بين النص الدستوري الثابت وواقع الجماعة المتغير للأستاذين/ مقران طيبي، يوسف التومي يوسف. منشور بمجلة صوت القانون- المجلد العاشر- العدد 1 لسنة 2024.
(1) يراجع: د. عبد الحميد متولى نظرات في أنظمة الحكم فى الدول النامية سنة 1985 منشأة المعارف بالإسكندرية ص 272.
(1) لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع يراجع: د. عبدالحميد متولي – المرجع السابق ص 256 وما بعدها.
(1) د. عبدالحميد متولى : المرجع السابق ص 254.
(1) يراجع في التفاصيل: د. عبدالحميد متولى : المرجع السابق ص 116 وما بعدها.
(1) يراجع: د. أحمد فتحي سرور: منهج الإصلاح الدستوري سنة 2006 مطبعة مجلس الشعب ص 9 وما بعدها.ود. حسين مقداد: المدلول السياسي والقانوني للدستور ودور القاضي الدستوري في تحقيق التطابق بينهما سنة 2021 دار النهضة العربية ص 12 وما بعدها.
(1) د. أحمد فتحي سرور: المرجع السابق. ص 13.
(2) د. أحمد فتحي سرور: المرجع السابق. ص 14.
(1) د. أحمد فتحي سرور : المرجع السابق ص 15
(1) يراجع د. أحمد فتحي سرور : المرجع السابق، ص 21 ، 22.
(1) د. أحمد فتحى سرور : المرجع السابق، ص23.
(1) دور القضاء الدستوري في تحقيق تواصل بين النص الدستوري الثابت وواقع الجماعة المتغير : البحث السابق ص 115.
(1) يراجع في ذلك أستاذنا المرحوم المستشار الدكتور / عوض المر في مؤلفه القيم : الرقابة القضائية على دستورية القوانين فى ملامحها الرئيسية – مركز رينيه – جان دى بوى للقانون والتنمية . ص 79 وما بعدها.
(1) د / عوض المر : المرجع السابق ص 83.
(1) يراجع في التفاصيل أستاذنا المرحوم الدكتور/ عوض المر، المرجع السابق، ص 84 وما بعدها.
(1) يراجع : د. عوض المر المرجع السابق ص 85 وما بعدها.
(1) الحكم الصادر فى الدعوى رقم 1 لسنة 45 قضائية "دستورية" – جلسة 2/12/2023.
(1)، (2) الحكم رقم 36 لسنة 31 قضائية "دستورية" بجلسة 2/1/2011.
(1) الحكم الصادر فى الدعوى رقم 167 لسنة 22 قضائية "دستورية" بجلسة 9/5/2004.
(1) الحكم الصادر فى الدعوى رقم 158 لسنة 26 قضائية "دستورية" بجلسة 6/12/2009
(1) الحكم الصادر فى الدعوى رقم 116 لسنة 29 قضائية "دستورية" بجلسة 25/ 7/2015.
(1) الحكم الصادر فى الدعوى رقم 106 لسنة 6 قضائية "دستورية" بجلسة 29/ 6/1985.
(2) الحكم الصادر فى الدعوى رقم 22 لسنة 17 قضائية "دستورية" بجلسة 3/2/1996، وكذلك الحكم الصادر فى الدعوى 86 لسنة 18 قضائية "دستورية" بجلسة 6/12/1997.
(1) الحكم الصادر فى الدعوى رقم 160 لسنة 36 قضائية "دستورية" بجلسة 3/12/2016.
(1) الحكم الصادر في الدعوى رقم 203 لسنة 19 قضائية "دستورية" بجلسة 1/2/2020.
(1) حكم المحكمة الدستورية العليا رقم 54 لسنة 37 قضائية "دستورية" – جلسة 6/7/2019
(1) حكم المحكمة الدستورية العليا رقم 23 لسنة 16 قضائية "دستورية" – جلسة 18/3/1995.
(2) حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر في الدعوى رقم 207 لسنة 32 قضائية "دستورية" بجلسة 1/12/2018.